كتاب عون المعبود شرح سنن أبي داود (ط. المكبتة السلفية) (اسم الجزء: 3)

مَعْنَاهَا الشَّرْعِيّ لَا اللُّغَوِيّ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ أَلْفَاظ الشَّارِع مَحْمُولَة عَلَى عُرْفه لِكَوْنِهِ بُعِثَ لِتَعْرِيفِ الشَّرْعِيَّات لَا لِتَعْرِيفِ الْمَوْضُوعَات اللُّغَوِيَّة .
وَإِذَا كَانَ الْمَنْفِيّ الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة اِسْتَقَامَ نَفْي الذَّات ، لِأَنَّ الْمُرَكَّب كَمَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جَمِيع أَجْزَائِهِ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ بَعْضهَا ، فَلَا يُحْتَاج بِإِضْمَارِ الصِّحَّة وَلَا الْأَجْزَاء وَلَا الْكَمَال كَمَا رَوَى عَنْ جَمَاعَة لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْتَاج إِلَيْهِ عِنْد الضَّرُورَة وَهِيَ عَدَم إِمْكَان اِنْتِفَاء الذَّات .
وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ الْمُرَاد هَاهُنَا الصَّلَاة اللُّغَوِيَّة فَلَا يُمْكِن تَوَجُّه النَّفْي إِلَى ذَاتهَا ، لِأَنَّهَا قَدْ وُجِدَتْ فِي الْخَارِج كَمَا قَالَهُ الْبَعْض ، لَكَانَ الْمُتَعَيَّن تَوْجِيه النَّفْي إِلَى الصِّحَّة أَوْ الْإِجْزَاء لَا إِلَى الْكَمَال ، إِمَّا أَوَّلًا : فَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ أَقْرَب الْمَجَازَيْنِ ، وَإِمَّا ثَانِيًا : فَلِرِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ بِلَفْظِ " لَا تُجْزِئ الصَّلَاة لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب " وَقَالَ إِسْنَاده صَحِيح ، وَصَحَّحَهَا اِبْن الْقَطَّان ، وَلَهَا شَاهِد مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا بِهَذَا اللَّفْظ أَخْرَجَهُ اِبْن خُزَيْمَةَ وَابْن حِبَّان وَغَيْرهمَا ، وَلِأَحْمَد بِلَفْظِ " لَا تُقْبَل صَلَاة لَا يُقْرَأ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآن " وَمِنْ هَاهُنَا لَاحَ لَك أَنَّ قَوْل الْحَنَفِيَّة بِأَنَّ الْمُرَاد بِالنَّفْيِ فِي الْحَدِيث نَفْي الْكَمَال بَاطِل لَا دَلِيل عَلَيْهِ . وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْض الْعُلَمَاء الْحَنَفِيَّة قَدْ تَأَوَّلُوا رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيِّ الْمَذْكُورَة وَقَالُوا إِنَّهَا مَحْمُولَة عَلَى الْإِجْزَاء الْكَامِل ، وَأَنْتَ تَعْلَم أَنَّ هَذَا تَحَكُّم بَحْت وَتَعَصُّب مَحْض لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْد الْإِجْزَاء إِلَّا الْبُطْلَان ، وَمَاذَا بَعْد الْحَقّ إِلَّا الضَّلَال . وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى وُجُوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي كُلّ رَكْعَة بِنَاء عَلَى أَنَّ الرَّكْعَة الْوَاحِدَة تُسَمَّى صَلَاة لَوْ تَجَرَّدَتْ ، وَفِيهِ نَظَر لِأَنَّ قِرَاءَتهَا فِي رَكْعَة وَاحِدَة مِنْ الرُّبَاعِيَّة مَثَلًا يَقْتَضِي حُصُول اِسْم قِرَاءَتهَا فِي تِلْكَ الصَّلَاة ، وَالْأَصْل عَدَم وُجُوب الزِّيَادَة عَلَى الْمَرَّة الْوَاحِدَة ، وَالْأَصْل أَيْضًا عَدَم إِطْلَاق الْكُلّ عَلَى الْبَعْض ، لِأَنَّ الظُّهْر مَثَلًا كُلّهَا صَلَاة وَاحِدَة حَقِيقَة كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيث الْإِسْرَاء حَيْثُ سُمِّيَ الْمَكْتُوبَات خَمْسًا وَكَذَا حَدِيث عُبَادَةَ " خَمْس صَلَوَات كَتَبَهُنَّ اللَّه عَلَى الْعِبَاد " وَغَيْر ذَلِكَ@

الصفحة 43