كتاب عون المعبود شرح سنن أبي داود (ط. المكبتة السلفية) (اسم الجزء: 5)

فَائِدَة : وَلَمْ يُحْفَظ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اِعْتَمَرَ فِي السَّنَة إِلَّا مَرَّة وَاحِدَة ، وَلَمْ يَعْتَمِر فِي سَنَة مَرَّتَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ فَبِأَيِّ شَيْء يَسْتَحِبُّونَ الْعُمْرَة فِي السَّنَة مِرَارًا خُصُوصًا فِي رَمَضَان ثُمَّ لَمْ يُثْبِتُوا ذَلِكَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قِيلَ : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشْتَغِل فِي الْعِبَادَات بِمَا هُوَ أَهَمّ مِنْ الْعُمْرَة وَلَمْ يَكُنْ يُمْكِنهُ الْجَمْع بَيْن تِلْكَ الْعِبَادَات وَبَيْن الْعُمْرَة فَإِنَّهُ لَوْ اِعْتَمَرَ مِرَارًا لَبَادَرَتْ الْأُمَّة إِلَى ذَلِكَ وَكَانَ يَشُقّ عَلَيْهَا ، وَقَدْ كَانَ يَتْرُك النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْعَمَل وَهُوَ يُحِبّ أَنْ يَعْمَلهُ خَشْيَة الْمَشَقَّة عَلَيْهِمْ . وَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْت خَرَجَ مِنْهُ حَزِينًا فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَة فِي ذَلِكَ فَقَالَ إِنِّي أَخَاف أَنْ أَكُون قَدْ شَقَقْت عَلَى أُمَّتِي وَهَمَّ أَنْ يَنْزِل يَسْتَسْقِي مَعَ سُقَاة زَمْزَم لِلْحَاجِّ فَخَافَ أَنْ يُغْلَب أَهْلُهَا عَلَى سِقَايَتهمْ بَعْده . وَقَدْ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْعُمْرَة إِلَى الْعُمْرَة كَفَّارَة لِمَا بَيْنهمَا وَالْحَجّ الْمَبْرُور لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجَنَّة " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة ، وَلَفْظ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود مَرْفُوعًا " تَابِعُوا بَيْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة " وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ التَّفْرِيق بَيْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة فِي التَّكْرَار وَتَنْبِيه عَلَى ذَلِكَ ، إِذْ لَوْ كَانَتْ الْعُمْرَة بِالْحَجِّ لَا تُعْقَل فِي السَّنَة إِلَّا مَرَّة لَسَوَّى بَيْنهمَا وَلَمْ يُفَرَّقَا . وَقَدْ نَدَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكَ بِلَفْظِهِ فَثَبَتَ الِاسْتِحْبَاب مِنْ غَيْر تَقْيِيد .
وَلَا شَكّ أَنَّ الْحَدِيث فِيهِ دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب الِاسْتِكْثَار مِنْ الِاعْتِمَار خِلَافًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ يُكْرَه أَنْ يَعْتَمِر فِي السَّنَة أَكْثَر مِنْ مَرَّة كَالْمَالِكِيَّةِ وَهَذَا الْقَوْل لَا يَصِحّ ، وَالصَّحِيح جَوَاز الِاسْتِكْثَار مِنْ الِاعْتِمَار وَخَالَفَ مَالِكًا مُطَرِّف مِنْ أَصْحَابه وَابْن الْمَوَّاز قَالَ مُطَرِّف : لَا بَأْس بِالْعُمْرَةِ فِي السَّنَة مِرَارًا . وَقَالَ اِبْن الْمَوَّاز أَرْجُو أَنْ لَا يَكُون بِهِ بَأْس . وَقَدْ اِعْتَمَرَتْ عَائِشَة مَرَّتَيْنِ فِي شَهْر وَلَا أَدْرِي أَنْ يُمْنَع أَحَد مِنْ التَّقَرُّب إِلَى اللَّه بِشَيْءٍ مِنْ الطَّاعَات وَلَا مِنْ الِازْدِيَاد مِنْ الْخَيْر فِي مَوْضِع وَلَمْ يَأْتِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ نَصّ . وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُور . وَيَكْفِي فِي هَذَا أَنَّ النَّبِيّ@

الصفحة 473