كتاب عون المعبود شرح سنن أبي داود (ط. المكبتة السلفية) (اسم الجزء: 6)
أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ كَالنَّفَقَةِ وَأَظْهَرهُمَا الْوُجُوب وَمَذْهَب مَالِك أَنَّ لَهَا السُّكْنَى إِذَا كَانَتْ الدَّار مِلْكًا لِلْمَيِّتِ اِنْتَهَى . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن مَنْصُور أَخْبَرَنَا رَوْح حَدَّثَنَا شِبْل عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } قَالَ : كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّة تَعْتَدّ عِنْد أَهْل زَوْجهَا وَاجِب فَأَنْزَلَ اللَّه { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } وَصِيَّة لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْل غَيْر إِخْرَاج فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوف } .
قَالَ : جَعَلَ اللَّه لَهَا تَمَام السُّنَّة سَبْعَة أَشْهُر وَعِشْرِينَ لَيْلَة وَصِيَّة إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتهَا ، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ ، وَهُوَ قَوْل اللَّه { غَيْر إِخْرَاج فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ } فَالْعِدَّة كَمَا هِيَ وَاجِب عَلَيْهَا . زَعَمَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِد . وَقَالَ عَطَاء : قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَة عِدَّتهَا عِنْد أَهْلهَا فَتَعْتَدّ حَيْثُ شَاءَتْ . وَقَوْل اللَّه { غَيْر إِخْرَاج } قَالَ عَطَاء : إِنْ شَاءَتْ اِعْتَدَّتْ عِنْد أَهْله وَسَكَنَتْ فِي وَصِيَّتهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللَّه { فَلَا جُنَاح عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسهنَّ } قَالَ عَطَاء : ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاث فَنَسَخَ السُّكْنَى فَتَعْتَدّ حَيْثُ شَاءَتْ وَلَا سُكْنَى لَهَا .
قَالَ الْحَافِظ اِبْن حَجَر : قَالَ اِبْن بَطَّال : ذَهَبَ مُجَاهِد إِلَى أَنَّ الْآيَة وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا } نَزَلَتْ قَبْل الْآيَة الَّتِي فِيهَا { وَصِيَّة لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْل غَيْر إِخْرَاج } ، كَمَا هِيَ قَبْلهَا فِي التِّلَاوَة ، وَكَانَ الْحَامِل لَهُ عَلَى ذَلِكَ اِسْتِشْكَال أَنْ يَكُون النَّاسِخ قَبْل الْمَنْسُوخ ، فَرَأَى أَنَّ اِسْتِعْمَالهمَا مُمْكِن بِحُكْمٍ غَيْر مُتَدَافِع لِجَوَازِ أَنْ يُوجِب اللَّه عَلَى الْمُعْتَدَّة تَرَبُّص أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا ، وَيُوجِب عَلَى أَهْلهَا أَنْ تَبْقَى عِنْدهمْ سَبْعَة أَشْهُر وَعِشْرِينَ لَيْلَة تَمَام الْحَوْل إِنْ أَقَامَتْ عِنْدهمْ . قَالَ : وَهُوَ قَوْل لَمْ يَقُلْهُ أَحَد مِنْ الْمُفَسِّرِينَ غَيْره وَلَا تَابَعَهُ عَلَيْهَا مِنْ الْفُقَهَاء أَحَد بَلْ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ آيَة الْحَوْل مَنْسُوخَة وَأَنَّ السُّكْنَى تَبَعٌ لِلْعِدَّةِ فَلَمَّا نُسِخَ الْحَوْل فِي الْعِدَّة بِالْأَرْبَعَةِ أَشْهُر وَعَشْر نُسِخَتْ السُّكْنَى أَيْضًا .
وَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : لَمْ يَخْتَلِف الْعُلَمَاء أَنَّ الْعِدَّة بِالْحَوْلِ نُسِخَتْ إِلَى أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر ، وَإِنَّمَا اِخْتَلَفُوا فِي قَوْله : { غَيْر إِخْرَاج } فَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّهُ نُسِخَ أَيْضًا .
وَرَوَى اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد فَذَكَرَ حَدِيث الْبَاب قَالَ وَلَمْ يُتَابَع عَلَى ذَلِكَ وَلَا قَالَ أَحَد مِنْ عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ بِهِ فِي مُدَّة الْعِدَّة ، بَلْ رَوَى اِبْن جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِد فِي قَدْرهَا مِثْل مَا عَلَيْهِ النَّاس فَارْتَفَعَ الْخِلَاف ، وَاخْتَصَّ مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِد وَغَيْره بِمُدَّةِ السُّكْنَى عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا شَاذٌّ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ الْعَيْنِيّ : وَحَاصِل كَلَام مُجَاهِد أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى الْمُعْتَدَّة تَرَبُّص أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا ، وَأَوْجَبَ عَلَى أَهْلهَا أَنْ تَبْقَى عِنْدهمْ سَبْعَة أَشْهُر وَعِشْرِينَ لَيْلَة تَمَام الْحَوْل .
وَقَالَ الْعَيْنِيّ أَيْضًا : قَالَ مُجَاهِد : إِنَّ الْعِدَّة الْوَاجِبَة : " أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا وَتَمَام السَّنَة بِاخْتِيَارِهَا بِحِسَابِ الْوَصِيَّة ، فَإِنْ شَاءَتْ قَبِلَتْ الْوَصِيَّة وَتَعْتَدّ إِلَى الْحَوْل ، وَإِنْ شَاءَتْ اِكْتَفَتْ بِالْوَاجِبِ . وَيُقَال : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ الْعِدَّة إِلَى تَمَام السَّنَة وَاجِبَة ، وَأَمَّا السُّكْنَى عِنْد زَوْجهمَا فَفِي الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر وَالْعَشْر وَاجِبَة ، وَفِي التَّمَام بِاخْتِيَارِهَا ، وَلَفْظه : فَالْعِدَّة كَمَا هِيَ وَاجِب عَلَيْهَا . يُؤَيِّد هَذَا الِاحْتِمَال ، وَحَاصِله أَنَّهُ لَا يَقُوم بِالنَّسْخِ وَاَللَّه أَعْلَم .
وَفِي جَامِع الْبَيَان فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّة لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْل غَيْر إِخْرَاج } يَعْنِي وَحَقّ الْمُتَوَفَّى أَنْ يُوصُوا قَبْل أَنْ يَحْتَضِرُوا بِأَنْ تُمَتَّع أَزْوَاجهمْ بَعْدهمْ حَوْلًا كَامِلًا ، وَيُنْفَق عَلَيْهِنَّ مِنْ تَرِكَته غَيْر مُخْرَجَات مِنْ مَسَاكِنهنَّ ، وَهَذَا فِي اِبْتِدَاء الْإِسْلَام ثُمَّ نُسِخَتْ الْمُدَّة بِقَوْلِهِ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا وَالنَّفَقَة بِالْإِرْثِ . هَذَا مَا عَلَيْهِ أَكْثَر السَّلَف ، فَكَانَتْ الْآيَة مُتَأَخِّرَة فِي التِّلَاوَة مُتَقَدِّمَة فِي النُّزُول وَاللَّهُ أَعْلَم . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَالنَّسَائِيُّ .@
الصفحة 410