كتاب عون المعبود شرح سنن أبي داود (ط. المكبتة السلفية) (اسم الجزء: 12)
{ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ زَيْغ } : أَيْ مَيْل عَنْ الْحَقّ . قَالَ الْإِمَام الرَّاغِب فِي مُفْرَدَات الْقُرْآن الزَّيْغ الْمَيْل عَنْ الِاسْتِقَامَة إِلَى أَحَد الْجَانِبَيْنِ اِنْتَهَى . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُشَار إِلَيْهِمْ فَقِيلَ هُمْ وَفْد نَجْرَان الَّذِينَ خَاصَمُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالُوا أَلَسْت تَزْعُم أَنَّ عِيسَى رُوح اللَّه وَكَلِمَته ؟ قَالَ بَلَى ، قَالُوا حَسْبنَا فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة . وَقِيلَ هُمْ الْيَهُود لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مَعْرِفَة مُدَّة بَقَاء هَذِهِ الْأُمَّة قَالَهُ الْخَازِن . { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } : أَيْ يُحِيلُونَ الْمُحْكَم عَلَى الْمُتَشَابِه وَالْمُتَشَابِه عَلَى الْمُحْكَم ، وَهَذِهِ الْآيَة تَعُمّ كُلّ طَائِفَة مِنْ الطَّوَائِف الْخَارِجَة عَنْ الْحَقّ مِنْ طَوَائِف الْبِدْعَة ، فَإِنَّهُمْ يَتَلَاعَبُونَ بِكِتَابِ اللَّه تَلَاعُبًا شَدِيدًا وَيُورِدُونَ مِنْهُ لِتَنْفِيقِ جَهْلهمْ مَا لَيْسَ مِنْ الدَّلَالَة فِي شَيْء { اِبْتِغَاء الْفِتْنَة } : أَيْ طَلَبًا مِنْهُمْ لِفِتْنَةِ النَّاس فِي دِينهمْ وَالتَّلَبُّس عَلَيْهِمْ وَإِفْسَاد ذَوَات بَيْنهمْ لَا تَحَرِّيًا لِلْحَقِّ { وَابْتِغَاء تَأْوِيله } : أَيْ تَفْسِيره عَلَى الْوَجْه الَّذِي يُرِيدُونَهُ وَيُوَافِق مَذَاهِبهمْ الْفَاسِدَة . قَالَ الزَّجَّاج : الْمَعْنَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَأْوِيل بَعْثهمْ وَإِحْيَائِهِمْ فَأَعْلَمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ تَأْوِيل ذَلِكَ وَوَقْته لَا يَعْلَمهُ إِلَّا اللَّه { وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه } : يَعْنِي تَأْوِيل الْمُتَشَابِه ، وَقِيلَ لَا يَعْلَم اِنْقِضَاء مُلْك هَذِهِ الْأُمَّة إِلَّا اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ اِنْقِضَاء مُلْكهَا مَعَ قِيَام السَّاعَة وَلَا يَعْلَم ذَلِكَ إِلَّا اللَّه . وَقِيلَ يَجُوز أَنْ يَكُون لِلْقُرْآنِ تَأْوِيل اِسْتَأْثَرَهُ اللَّه بِعِلْمِهِ وَلَمْ يُطْلِع عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقه ، كَعِلْمِ قِيَام السَّاعَة وَوَقْت طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَخُرُوج الدَّجَّال وَنُزُول عِيسَى بْن مَرْيَم وَعِلْم الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة وَأَشْبَاه ذَلِكَ مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه بِعِلْمِهِ ، فَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب وَحَقَائِق عُلُومه مُفَوَّضَة إِلَى اللَّه تَعَالَى ، وَهَذَا قَوْل أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ ، وَهُوَ مَذْهَب عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة عَنْهُ وَأُبَيّ بْن كَعْب وَعَائِشَة وَأَكْثَر التَّابِعِينَ فَعَلَى هَذَا الْقَوْل تَمَّ الْكَلَام عِنْد قَوْله { إِلَّا اللَّه } : فَيُوقَف عَلَيْهِ قَالَهُ@
الصفحة 347