كتاب آراء القرطبي والمازري الاعتقادية

القيروان: هذا يموت، وهذا يضرب، وهذا يسجن، وهم صابرون، لا يفرون، ولو فروا لكفرت العامة دفعة واحدة (¬١).
فالأحوال السياسية في إفريقية فرضت على العلماء في ذلك الوقت طريقة خاصة في نشر العلم وتبليغه، وهو مقاومة الواقع المفروض من تأثير المذهب الشيعي الذي تدعمه الحكومة، وكذلك مواجهة الأطماع النصرانية التي سيطرت على البلاد القريبة من إفريقية، بل سيطرت أحيانًا على المهدية نفسها.
ولكن لم تكن هذه الظروف لتقضي على العلم، أو تطمس رسمه، قال فرحات الدشراوي: لقد كان المازري في تلك الفترة التي طالت فيها محنة الدولة الصنهاجية مثلًا ساطعًا عن اتصال السند العلمي بإفريقية منذ القرن الأول، بالرغم مما كان ينتاب البلاد من نوائب الفتنة، وشرور الاضطراب السياسي، فلقد استقر فيها الإسلام وترعرعت بربوعها علومه، ونمت به الآداب والمعارف، جيلًا بعد جيل، منذ دخولها في الملة الإسلامية والثقافة العربية، ولم تكن تلك التقلبات السياسية التي ألفتها البلاد قاطعة لأسباب النمو الفكري، والنهضة العلمية، بل إن إفريقية ظلت دارًا خصبة للعلوم الإسلامية، والآداب والمعارف ... فقد عاش المازري وهو صقلي الأصل في عهد كاد يتقلص فيه سلطان الإسلام من بلادنا بخطر النصارى الزاحفين من جهة جنوب إيطاليا وصقلية ... فكأن المازري ظل طيلة حياته - وقد أبى الالتجاء إلى المشرق، وآثر البقاء في بلده والصمود أمام المحنة - برهانًا عن صبر إفريقية على المآسي، وعما يكون بالعلوم والمعارف من العزاء من شرور السياسة واضطراب
---------------
= المؤلفين (٢/ ١١٧).
(¬١) مقدمة المعلم (١/ ١١).

الصفحة 25