كتاب الروح - ابن القيم - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 1)
وأما قولُ الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قتلى بدر: «كيف تخاطب أمواتًا قد جَيَّفوا؟» (¬١) مع إخباره بسماعهم (¬٢) كلامَه، فلا ينفي ذلك ردَّ أرواحهم إلى أجسادِهم ذلك الوقتَ ردًّا يسمعون به خطابه، والأجساد قد جَيَّفت، فالخطاب للأرواح المتعلّقة بتلك الأجساد التي قد فسدت.
وأما قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: ٢٢] فسياقُ الآية يدلُّ على أنَّ المرادَ منها: أنَّ الكافرَ مَيِّتُ القلب، لا يقدرُ على إسماعه سماعًا ينتفع به، كما أنَّ مَن في القبور لا يقدر (¬٣) على إسماعهم سماعًا ينتفعون به. ولم يُرِدْ [٢٩ أ] سبحانه أنَّ أصحابَ القبور لا يسمعون شيئًا البتة. كيف وقد أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنهم يسمعون خفقَ نِعال المشيِّعين، وأخبر أن قتلى بدر سمعوا كلامَه وخطابَه، وشرعَ السلامَ عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أنَّ من سلَّم على أخيه المؤمن ردَّ عليه السلام (¬٤)؟ وهذه الآية نظيرُ قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: ٨٠].
وقد يقال: نفيُ إسماعِ الصُّمِّ مع نفي إسماعِ الموتى يدلُّ على أنَّ المرادَ عدمُ أهليّة كلٍّ منهما للسماع. وأنَّ قلوبَ هؤلاء لما كانت ميتةً صُمًّا (¬٥) كان إسماعها ممتنعًا بمنزلة خطاب الميِّت والأصمِّ. وهذا حقٌّ، ولكن لا ينفي
---------------
(¬١) تقدم في أول الكتاب (ص ٧).
(¬٢) (ب، ج): «إنكاره لسماعهم».
(¬٣) (ط): «يقدرون».
(¬٤) الأحاديث المذكورة قد سبق تخريجها في أول الكتاب.
(¬٥) في معظم النسخ ضبط بتنوين الميم.