كتاب الروح - ابن القيم - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 1)
وهذه المرائي وإن لم تصلُح بمجرَّدها لإثبات مثل ذلك، فهي على كثرتها ــ وإنها لا يحصيها إلا الله ــ قد تواطأَتْ على هذا المعنى. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أرى رؤياكم قد تواطأَتْ على أنها في العشر الأواخر" (¬١) يعني ليلةَ القدر، فإذا [٥ أ] تواطأت رؤيا المؤمنين على شيء كان كتواطؤِ (¬٢) روايتهم له، وكتواطؤ رأيهم على استحسانه واستقباحه. وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح (¬٣)؛ على أنَّا لم نُثبِت هذا بمجرد الرؤيا، بل بما ذكرناه من الحُجَج وغيرها.
وقد ثبت في الصحيح أنَّ الميِّت يستأنسُ بالمشيِّعين لجنازته بعد دفنه.
فروى مسلم في صحيحه (¬٤) من حديث عبد الرحمن بن شِمَاسة المَهْرِيِّ (¬٥) قال: حضَرْنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلًا، وحوَّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنُه يقول: ما يُبكيك يا أبتاه؟ أما بشَّرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا؟ فأقبل بوجهه، فقال: إنَّ أفضلَ ما نُعِدُّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وإني كنت على أطباقٍ ثلاث، لقد رأيتُني وما أحدٌ أشدَّ بغضًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني، ولا أحبَّ إليَّ أن أكون قد استمكنتُ منه، فقتلته. فلو مِتُّ على تلك الحال لكنت من أهل النار.
---------------
(¬١) أخرجه البخاري (٢٠١٥)، ومسلم (١١٦٥) من حديث ابن عمر.
(¬٢) رسمها في جميع النسخ هنا وفيما يأتي: "كتواطي".
(¬٣) يشير إلى ما رواه الحاكم في المستدرك (٤٤٦٥) وغيره عن ابن مسعود موقوفًا.
(¬٤) برقم (١٢١).
(¬٥) (ق): "المهيري"، خطأ.