كتاب الروح - ابن القيم - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 2)
غناه مشاركٌ، كما لا يشاركه في قِدَمه وربوبيّته وإلهيته وملكه التامِّ وكماله المقدَّس مشاركٌ. فشواهدُ الخلق والحدوث على الأرواح كشواهده على الأبدان. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: ١٥]. وهذا الخطابُ بالفقر إليه للأرواح والأبدان، ليس هو للأبدان فقط. وهذا الغِنى التامُّ لله وحده لا يَشرَكُه فيه غيره (¬١).
وقد أرشد الله سبحانه عبادَه إلى أوضح دليل على ذلك بقوله: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة: ٨٣ ــ ٨٧]. أي: فلولا، إن كنتم غيرَ مملوكين ومقهورين ومربوبين ومُجازَين بأعمالكم، ترُدُّون الأرواح إلى الأبدان إذا وصلتْ إلى هذا الموضعِ! أوَلا تعلمون بذلك أنها مدينة مملوكة مربوبة محاسبة مجزيَّة بعملها.
وكلُّ ما [٩٦ ب] تقدَّم ذكرُه في هذا الجواب من أحكام الروح وشأنها ومستقرِّها بعد الموت، فهو دليلٌ على أنها محدَثة (¬٢) مخلوقة مربوبة مدبَّرة، ليست بقديمة. وهذا الأمر أوضحُ من أن تُساقَ الأدلةُ عليه لولا ضُلَّالٌ (¬٣) من المتصوفة وأهل البدع، ومن قصَر فهمُه في كتاب الله وسنة رسوله، فأتِيَ من سوء الفهم (¬٤) لا من النصِّ؛ تكلَّموا في أنفسهم وأرواحهم بما دلَّ على أنهم
---------------
(¬١) انظر الفصل الأول من «طريق الهجرتين» للمؤلف (١٢).
(¬٢) «محدثة» من (ب، ج، ن).
(¬٣) كذا في الأصل مضبوطًا.
(¬٤) (ن): «فمن سوء الفهم أتي». وقد تصحف «فأتي» إلى «فإن» في (ط). وفيها أيضًا: «من سوء النص».