كتاب الأساس في التفسير (اسم الجزء: 5)

الطاقة البشرية في هذ المجال. ومن ثم يتبينون بوضوح أن هذا المستوى فوق الطاقة البشرية قطعا.
وينشأ عن هذه الظاهرة ظاهرة أخرى في الأداء القرآني .. هي أن النص الواحد يحوي مدلولات متنوعة متناسقة في النص؛ وكل مدلول منها يستوفي حظه من البيان والوضوح دون اضطراب في الأداء واختلاط بين المدلولات؛ وكل قضية وكل حقيقة تنال الحيز الذي يناسبها. بحيث يستشهد بالنص الواحد في مجالات شتى؛ ويبدو كل مرة أصيلا في الموضع الذي استشهد به فيه؛ وكأنما هو مصوغ ابتداء لهذا المجال ولهذا الموضع! وهي ظاهرة قرآنية بارزة لا تحتاج منا إلى أكثر من الإشارة إليها.
وللأداء القرآني طابع بارز كذلك في القدرة على استحضار المشاهد، والتعبير المواجه كما لو كان المشهد حاضرا، بطريقة ليست معهودة على الإطلاق في كلام البشر؛ ولا يملك الأداء البشري تقليدها. لأنه يبدو في هذه الحالة مضطربا غير مستقيم مع أسلوب الكتابة! وإلا فكيف يمكن للأداء البشري أن يعبر عن طريقة الأداء القرآني مثلا في مثل هذه المواضع: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ- بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ .. (وإلى هنا هي قصة تحكى) .. ثم يعقبها مباشرة خطاب موجه في مشهد حاضر .. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ؟! فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً .. ثم يعود الأداء للتعقيب على المشهد الحاضر: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ ..
قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ، شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ .. وإلى هنا أمر يوجه ورسول يتلقى .. ثم فجأة نجد الرسول يسأل القوم: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى؟ .. وإذا به يعود للتلقي في شأن هذا الذي سأل عنه قومه- وأجابوه: قُلْ: لا أَشْهَدُ قُلْ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.
وكذلك هذه الالتفاتات المتكررة في مثل هذه الآيات: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ .. وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا. قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، إِنَ

الصفحة 2467