كتاب على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار

القرآنية تثبت المسار الدائري لحركة الوجود؛ الكلية والجزئية في المصدر والمآل والاتجاه، من ذلك قوله تعالى: "وإن عدتّم عدنا" (الإسراء/8)، وقوله: "فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا" (فاطر/43). ترى نظرية الدورات المتكررة أن التاريخ يتحرك حركة دورية يكشف تكرارها عن قوانينَ دائبةٍ وسنن ماضية تخضع لها الحركة، ونظامٍ مضبوط يوجه مسارها، ومحطاتٍ متكررة تقف عندها الحضارات لزامًا، وإذا كان التراكم هو معيار التقدم الصاعد في النظرية السابقة، فإن التشابه هو معيار التكرار وضابط الحركة في هذه النظرية.
ولكن .. لمَ نرى أن هذه النظرية تفوق سابقاتها في الإصابة، وأنها جديرة بالتبني؟ الجواب أن قيمة هذه النظرية تتأتّى، في نظرنا، من اشتمالها على قيم ومبادئ ضرورية لامتلاك تصور إيجابي يوقن بالقدرة على السيطرة على التاريخ وتوجيهه، وبناء منظومة فكرية فعالة فيما يتعلق بتفسير الظاهرة الحضارية والانخراط في أي مشروع نهضوي، ويمكن أن نوجز تلك القيم في النقاط الآتية:
- استبعاد الحكم المبدئي بالقيمة الذاتية للحركة، فالحركة قد تكون نكوصًا وتقهقرًا إلى الخلف، كما تكون تقدمًا وتطورًا، والحكم عليها نسبي بحسب المرجعيات والمعايير والمتغيرات.
- للحركة قانون ونظام يمكن أن يستنبطا من مراقبة التجارب الإنسانية والحضارية السابقة، ولها سنّة ماضية على وتيرة متوقعة تسمح برصد آخرها وتوقع النتائج من خلال استقراء المقدمات والتدقيق في الإرهاصات، وهذا يعني إمكانية التخطيط

الصفحة 19