كتاب على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار

بالتالي، إلى مستوى السكون؛ أي إلى مسار الضعف والانحلال، وتتلاشى فيه لتبرز طاقةٌ جديدة ذات دفع مختلف لترسم مسارًا حضاريًا جديدًا (¬1). وضمن هذه الدورة ترتسم حركة التاريخ الكلية. وبما أن الدفع الحضاري دفع إنساني وليس دفعًا طبيعيًا أو ذاتيًا، فإن الإيمان بحتمية تخامد الاندفاع يستلزم حتميةَ المقاومة، والثقةَ بالقدرة على التصدي للتحديات الداخلية والخارجية، وضرورة التصحيح بهدف بناء دورات داخلية داعمة تجدد الشباب أو تؤخر الهرم (¬2).
- إن انتظام القوانين وتكرار الحركة لا يعني جبرية التاريخ، ولا تناسخ الظواهر، ولا يجزم بحتمية التوقع، كما أنه لا ينفي الخصوصية؛ لأن التدخّل البشري أساسي، والاختيار فعل حضاري جوهري يمنح الحضارات خصوصيتها الحضارية ومنظومتها القيمية، وعمر الحضارة قابل للتجديد والتخصيب في كل آن بدوائر داخلية داعمة إذا توافرت له العقول والإرادات التي تفهم التاريخ وتحسن
¬_________
(¬1) "الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة، فلا بد من عوده إلى شعب آخر منها [أو من غيرها] ما دامت لهم العصبية"، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 182، والتعميم بين العلامتين من عندي.
(¬2) ينظر: المخطط رقم1. يقدم لنا التاريخ نماذج لا تحصى لتجديد شباب الحضارة، وقد كان ابن خلدون ثاقب النظر عندما رصد عمر الحضارة الإسلامية من خلال الدول والأجيال المتعاقبة، فجيل قادر على أن يجدد شباب الأمة أو يؤخر سقوطها إن أُحسن إعداده، وأحيانًا تختفي حركة الجيل وراء عَلَم بارز؛ كما كان من شأن صلاح الدين في رأي ماجد عرسان الكيلاني في كتابه: هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، ص25.

الصفحة 21