كتاب على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
¬ __________
= الحضارة الغربية تتطور تطورًا متدرجًا في طريقها إلى الذروة الحضارية. وقد اعتبر كثير من الباحثين إقلاع الحضارة الإسلامية أمرًا عجيبًا لا مثيل له في التاريخ، يقول إشبنجلر: "إن تحرر هذا الجنس البشري المجوسي لا مثيل له في التاريخ، ... لقد ضغط في هذه السنوات القلائل وادخر فيها كامل العواطف والآمال المؤجلة والأعمال المتحفظة التي لا تسعها قرون وقرون من تواريخ حضارات أخرى". ينظر: إشبنجلر، أسوالد: تدهور الحضارة الغربية، 1/ 336، ومبرر هذا العجب أن الحضارات تولد في ظروف قلة، وفقر في المعطيات المادية، فإذا أطلقت الفكرة الحضارية الشرارة المحركة، جندّت كل القوى الممكنة والمهدورة في مشروعها، واستطاعت عن طريق تراكم الإنجازات، وتدرّج البناء والتطوير، الترقيَ المتصاعد إلى مستوى الفعالية التاريخية، أما الحضارة الإسلامية فقد انطلقت انطلاقة قوية مفاجئة مستمدة طاقتها من الفكرة والقيم دون أن تنتظر سند التراكم وراحة التدرج، وهذا ينبئ بضخامة الطاقة الذاتية للفكرة الإسلامية، وامتلاكها قوة دفع وتحفيز فريدة!
- حضنت الفكرةُ الحضارية الغربية مجموعةً من القيم الكلية استمدت منها معناها، وأمدتها بطاقة الحركة والإنجاز، وأهم هذه القيم وأبرزها: الإيمان بالعلم والعقل، وتقديس الإنسان. وإذا تأملنا مخطط الحضارة الغربية وجدنا أنه في مرحلتي الإقلاع والذروة يكاد يتوازى فيهما مؤشرا الدوافع؛ قيمًا ومصلحةً، ومؤشرُ الإنجازات، لأن الفكرة الغربية التي يمثلها مؤشر القيم كانت تبحث عن تحققها التدريجي عن طريق ضمانها لقائمة من المصالح كفلت لها سلسلة من الإنجازات الحضارية المتتابعة. بيد أن مؤشر القيم يبدأ مع الحرب العالمية الأولى في الانحدار نتيجة فقدان الثقة بالعقل والعلم، وامتهان كرامة الإنسان وانتهاكات روحه وجسده، والاضطرار إلى البحث عن بدائل أخلاقية، نتيجة الفساد المتفشي في المجتمعات الغربية وتفككها الداخلي .. كل هذا رسّخ الشكّ في قيم العقل الغربي الكلية وفي منطلقاته الفكرية، فأدى بالنتيجة إلى بروز انفصال حادّ بين مؤشر القيم ومؤشري المصلحة والإنجازات اللذين يتابعان توازيها وصعودها متحللَين من إطار القيم، ومنفلتَين من الضوابط الأخلاقية ومثاليات النفس الغربية! =
الصفحة 53
96