كتاب على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار

وليس كاليأس قوة لفناء الحضارات، ولن يزرع الأمل مثل اليقين (¬1).
ويقفز ههنا التساؤل الوجيه الذي يقول: ولكن .. لم تنفصل الفكرة عن الذات، ومن أي رحم يولد الشك ليخمد فورة الحياة في اليقين الطموح؟!! إن العلل وراء ذلك هي بدورها عوامل هامة في دفع كرة الانهيار المتدحرجة، وتنويهًا منا بذلك، وتوجيهًا إلى أصالة اليقين بوصفه فتيلاً للفكرة المحركة، نبدأ في عدّ عوامل الانهيار الحضاري من بعده، فهي تفصيل لما أجمل فيه:

1 - الوفرة؛ مفرخةُ أنداد منافِسِين للفكرة الحضارية:
إن من شروط كل حضارة بل من غايات وجودها العضوية أن تحقق الرفاهية والوفرة لأبنائها، وهذا ما تبدأ الحضارة في الشروع به من بعد انطلاقتها الأولية، وتحوّلها من مرحلة التخلق إلى الاستقرار والتبلور في صورة دولة ونظام وتشريع ومؤسسات .. ومنجزات اجتماعية ومادية ومعرفية .. حتى ذلك الحين تظل الفكرة متّحدة بالمصلحة ومصدرًا للربح والخسارة يغري القاصي والداني بالانتماء والولاء، إذ إنها بوابة الوصول إلى المصادر الأخرى للسلطة والمكاسب: المال، والقوة، والمعرفة (¬2). تلك السلطات التي تتعاضد معًا لدعم الفكرة
¬_________
(¬1) لعل الفيلم الأمريكي The Postman خير مثال على الأمة تنهار عندما تفقد الإيمان وتستكين لليأس، وذلك من خلال تصور تتحقق فيه تلك النبوءات المنذرة بانهيار الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تتفتّتُ إلى مدن صغيرة مستقلة ومنغلقة على نفسها، وتنتشر عصابات السلب الهمجية، ولكن الأمة تنهض من جديد عندما تستعيد الإيمان ويشيع بينها الأمل.
(¬2) قد يعجب القارئ من أننا جعلنا المعرفة ندًا للفكرة الحضارية، أو منافسًا لها، وهما على ما يبدو كينونة واحدة! الواقع أن الفكرة الحضارية تمتاز من النتاج المعرفي العام للأمة، ذلك أن المعرفة تجسّد للفكرة في الحقل المعرفي والعلمي، سواء منه النظري أو التطبيقي، والفكرة هي التي تعطي النتاج المعرفي هويته وطبيعته ومحتواه، وتفرض آلياته كذلك. كما أن الفكرة الحضارية المحرِّكة ترتبط بالإنسان والحياة؛ أي هي معرفة حية ضرورةً، معرفة تبرز من خلال المواقف والممارسات لا عبر الكتب والتحليلات، وقد علمنا أن الفكرة الحضارية الإسلامية وقيمها تجسدت في حياة الأفراد وسلوكهم وفي نظام الأمة الاجتماعي كله؛ ولذلك كان لها أن تحرك الحضارة. وكذلك الفكرة الغربية قُدِّر لها الوجود من خلال مواقف الصمود والثبات التي وقفها رواد هذه الحضارة، والدماء التي هريقت لأجلها، لا بسبب من دراسات نظرية وفذلكات علمية مجردة فقط.

الصفحة 61