كتاب على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار

الحياة والواقع وتحويل طاقتها إلى إنجازات خلاقة، فتتقدم الحضارة على مختلف المستويات. ثم يعقب ذلك جيل يرث المكاسب ويتعلق بها لتغدو غاية في ذاتها، ويغفل عن المولّد الحقيقي لها، وتتضخم لديه الميول الفردية والإحساس بالذات والتنافس في المصلحة، ويتمسّك بالفكرة شعاراتٍ مبهِجة معطَّلة، وتقاليد آلية مفرَغة من المعنى، إنه الجيل "المقلِّد" (¬1) الذي يؤثر المتعة ويعيش الترف ويتعلق بالقشور في كل شيء؛ في السياسة والمادة والمعرفة والدين أيضًا .. والميل إلى الإفراط يعني فيما يعني تحفيز ردة فعل معاكسة إلى التفريط، فتعرف الحضارة في تلك الحقبة خليطًا من التيارات المتناقضة المتصارعة، كالمادية والعقلانية والروحية والأصولية والشعبية .. ويتعمّق تفاوت طبقي بين الفئات الاجتماعية، وتشرذم سياسي يقطع أوصال العصبية الجامعة إلى ولاءات شخصية وعرقية تفتقد الحماسة الشعبية .. ومع ذلك كله، فإن تلك المرحلة تشهد ذروة الرقي المادي والمعرفي للحضارة، لأن الترف والتنافس حافزان على التجويد مشجعان على الإنجاز، ولأن السلطات الثلاث: القوة، والمادة، والمعرفة، ما زالت تعرف كثيرًا من التكامل. ثم يأتي قرن لا يجد في الفكرة قيمة، حتى أن تكون شعارًا! وتتصارع السلطات الثلاث وتتعارض بعد أن كانت متكاملة، بل تنقطع الصلات بينها وتتصادم (¬2)،
ويلجأ "الهادم" (¬3) - وهو الفرع الأخير من فروع السلسلة
¬_________
(¬1) "ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة فقصَّر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد"، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 171.
(¬2) للاستزادة فيما يتعلق بالصراع بين هذه السلطات، ينظر: الكيلاني، ماجد عرسان: هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص353 وما بعد ..
(¬3) "ثم إذا جاء الرابع قصّر عن طريقته جملة وأضاع الخِلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصابة ولا بخلال لما يرى من التجِلّة بين الناس ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها ويتوهم أنه النسب فقط فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته ويرى الفضل له عليهم وُثوقًا بما رُبِّي فيه من استتباعهم وجهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم والأخذ بمجامع قلوبهم فيحتقرهم بذلك فيُنغِّصون عليه ويحتقرونه ويُديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبيتهم كما قلنا بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله فتنمو فروع هذا وتذوي فروع الأول ... "، ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 171. ينظر أيضًا: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 412.

الصفحة 67