كتاب على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار

أو جامعة بينهما، إلا أنها في كل الأحوال يجب أن تنطلق من الفكرة الحضارية نفسها، تجدّدها وتبعث الحياة فيما تخشب منها، أو تتفوّق في ابتكار وسيلة ذهبية تكون ركيزة أو لبنة مؤثرة، تستجيب لمعطيات المرحلة التاريخية، أو تستبطن طاقات غير مفعّلة فيها، تعيد لها زخمها التاريخي (¬1). إن تخطّي تيار الصيرورة الهدّار أو معاكسته عمل استثنائي، وهو لا يتأتّى بغير توافر طاقة محرِّكة استثنائية أيضًا، تعلو على شروط الواقع الموضوعي لتؤمن بما هو كائن في القوة أو بما يمكن أن يكون، ولن يطّلع بهذه المهمة إلا قادة استثنائيون، بشرط أن يخلقوا داخل القاعدة الشعبية جيلاً يحمل الإيمان بالفكرة ويعمل بدفع منها، ليتحول الإيمان إلى تاريخ وإلا ظلّ في إطار الأحلام، لأن التغيير لا يمكن أن تنهض به القمة دون أن تدعمه القاعدة وتكون امتدادًا لها.
- لن تنهار الأمة إلا إذا فشا الفساد في خاصّتها، حتى ألفته عامّتها، ورضيت به، واستكانت له. إن الخاصة أكثر عرضة للفساد، وهو فيها أظهر وأبرز، ولكن الأمة المعافاة قادرة على إخراج خاصة صالحة من بين ظهرانيّ عامّتها تستعيد بها مصادر القوة والسيطرة من الخاصة الفاسدة، وتقوّم بها من انحرافها. وأبرز صفات الأمة المعافاة تمييز الحق من الباطل ونصرته (¬2)؛
لأنها تمتلك معيارًا واضحًا، ويقينًا
¬_________
(¬1) تؤمن الحضارة الإسلامية بفكرة المجدد الذي ينبعث على رأس كل قرن ليجدد للأمة دينها، ولا فرق في أن يكون المجدد فردًا أو جيلاً أو قومية أو مجموعة أفراد، وذلك يختلف تمامًا عن الاعتقاد بفكرة المخلِّص أو المنقذ، لأن فكرة المجدِّد هي تقرير لقانونٍ ومبادرةٌ، أما المخلِّص فهو حُلُم واستسلام وسلبية.
(¬2) في الحضارة الإسلامية واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مُعلَّق برقبة كل فرد في الأمة، تنهض به العامّة تمامًا كما تنهض به الخاصة، فقد قال ربنا جل وعلا: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"، (التوبة/71)، أما المنافقون والمنافقات فـ"بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف"، (التوبة/67). وقد مارس هذا الواجب أوائل المسلمين، ولم يكلوه إلى فئة منهم، فقد كان مما خطب به أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يوم السقيفة قوله: " .. فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني .. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قطّ إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم"، السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص57. وقد رخّص الله تعالى في حال القوة والتماسك وغلبة الإيمان أن تنهض بعبء الإصلاح طائفةٌ من الأمة (آل عمران/103 - 104)، فإذا ما انتكست الأمة إلى الخلاف، وعمّها المنكر، لزمت أمانةُ الإصلاح عامةَ الأمة وخاصَّتها، وقد روى الترمذي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهَوُنّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم". الترمذي: السنن، ص490. وكان رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - قد صرّح بأن استنكار المنكر في القلب وحده دليل على ضعف الإيمان ..

الصفحة 71