كتاب على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار
إصلاح خاصتها إلا لإبائها هي الحق في ذاتها وانصرافها عنه وجزعها منه ومحاربتها له .. في مثل هذه المرحلة، وعندما يعمّ الفساد عامّة الأمة وخاصّتها، لن يكون أي مشروع للإصلاح مجديًا ولا ناجعًا ما لم يكن جذريًا شاملاً ينصبّ على الإنسان قبل المظاهر والأشياء، لأن مستقرّ الداء فيه مهما بدا أن المحن والنكبات تستهدفه وتعارضه، والحق أن هذه النكبات نفسها وسيلة من وسائل الخلاص والبرء من ذاك الداء، فهي فرصة مجّانية يمنحها الزمن للأمة المنكوبة لتطهّر نفسها بعذابات الصهر من أدران الفساد، أي إن الزمن - وعلى عكس ما يعتقد كثير من المصلحين - يقف إلى جانبهم معينًا في مهمتهم الشاقّة لانتشال الإنسان المتلوّث، واستعادة جوهره النقيّ؛ فآخر دواء الكيّ.
ويمكن من خلال ما تقدّم الإجابة عن المسألة القديمة الجديدة: هل الإصلاح يبدأ من القمة أم من القاعدة؟ الحال أن الأمة، إذا استشرى فيها الفساد، فلا تجدي فيها الإصلاحات السياسية أو الإدارية ما لم تشترك الأمة كلها فيها (¬1)، لأن الأمة باستكانتها للواقع، وتهيبها من المغامرة، وانصرافها عن البذل والتضحية، تقاوم وتعادي أي مشروع للتصحيح بعد أن اعتادت عيش حياتها بمفاهيم
¬_________
(¬1) لعل تجربة محمد علي الإصلاحية في مصر خير مثال على هذا، فقد كان الرجل يحاول أن يبني مجده الشخصي ويحقق مكاسبه الخاصة، غافلاً عن حاجات الأمة ومتطلبات المرحلة، بل معاديًا لها في بعض الأحيان، ولذلك فإن جهوده الإصلاحية، التي تركزت في الشؤون الاقتصادية والعسكرية، لم تحدث انقلابًا حضاريًا، بل سرعان ما اضمحلت بزواله.
الصفحة 73
96