كتاب على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار

تخلّفه الفكرة في انسحابها (¬1)، أو استجابة إيجابية لحالة انفتاح الحضاري توفرها عالمية الحضارة في تلك المرحلة، واستلهامًا لثقافات خارجية مغايرة تمامًا لأصولها، وتُدخِل عالمية الحضارة، وصراع الفلسفات المتناقضة، مفهوم التعدّد في القيم الموجِّهة للأمة، وتجعل الفكرة المؤسِّسة خيارًا واحتمالاً قابلاً للتفاوض والرفض لتكرِّس، بالتالي، حالة الشك وتحكم لها بالشيوع (¬2).
وتستجيب الحضارة في بعض مستوياتها وفئاتها لهذه التحديات الخطيرة استجابة سلبية تتمثّل في محاولة تثبيت الحاضر عن طريق التقوقع على الذات، واستلهام النماذج الأصيلة غير الملوثة بدخيل خارجي أو داء داخلي، مكتفية بمحاكاة الماضي، متوقّفة عنده، ومعاكسة مجرى الحياة الذي لا ينقطع عن الدوران. صحيح أن هذه الاستجابة هي الصَّدَفة الصلبة التي تحفظ القيم الأصيلة للأمة وتصونها من طوارق الليل والنهار، إلا أنها
¬_________
(¬1) بل يصل توينبي إلى أن تلك المرحلة تشهد، أحيانًا، أن تسعى طائفة ما إلى استخدام القوة في فرض فلسفة (فكرة)، أو دين ما على الأمة المتهالكة بما يعاكس فكرتها الحضارية أو يعارضها، ويضرب مثلاً لذلك البروليتارية الداخلية الصينية التي "وجدت في المهايانا عقيدة دينية كانت تحولاً - لا شبهة فيه بحال - عن الفلسفة البوذية السالفة. ولدينا في الشيوعية الماركسية مثال بغيض إلى النفس يقوم بين ظهراني فلسفة غربية حديثة تحولت تحولاً لا شبهة فيه خلال عمر واحد، إلى عقيدة دينية بروليتارية، سالكة طريق العنف، مقتطعة بالسيف أورشليمها الجديدة من سهول روسية". توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 2/ 207.
(¬2) يقول توينبي: إن قاعدة الانهيارات وعلّتها الأساسية التي تسبق الانحلال هي "تفشّي الخلافات الداخلية التي تفقد خلالها المجتمعات ملكة تقرير المصير"، توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 2/ 150.

الصفحة 78