كتاب على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار
المجتمع ذاته، وانحراف القيم الموجِّهة له في مستوياته كلها؛ الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية بل الإبداعية أيضًا .. ومع أن الفسادين؛ السياسي والقضائي، أظهر في وعي الناس، لأنهما الملاذان اللذان يتوقعون منهما النصرة والأمن، ولأن أثرهما مادي وقاهر أكثر من غيرهما، فإن الفساد النوعي العميق في المستوى الأخلاقي أكثر هدمًا لبنية الحضارة، ولتماسك الأمة الداخلي، بما أنه يعطّل دافعيتها الذاتية، وينحرف بأخلاقياتها، ويضعف النازع الجماعي فيها، ويفقدها الثقة بجدوى الجهد، ويقتل روح الإبداع فيها. وكل أصناف الفساد والظلم تُغرِق الأمة في السلبية، وتضخِّم المثبّطات في عيونها، وتمدّها بمبرّرات تتعلق بها في الاعتذار عن استسلامها للواقع، وعدم مقاومة تيار الهدم الجارف، والعادة أن تردّ الأمة المنهارة أسباب ضعفها، وواقع الظلم الذي يحيق بها، إلى القيادات السياسية والإدارية بوصفها صاحبة القرار، وفي موقع المسؤولية!
5 - الذلّ والهزيمة النفسية:
لن يكون أقسى من الفساد والظلم على الأمة من الذلّ، ومع أن الذلّ تجلٍ من تجليات الظلم، فإن خطورته تتأتى من أنه إشارة على تأبّد الظلم إلى حدّ يقتل في الأمة إحساسها بذاتها، وتقديرها لها، وقدرتها على مقاومة مظاهر الفساد، فتعتاد ممارسات الظلم والاستبداد، وتستمرئها، وتعيد تصوّر ذاتها، وصياغة حياتها، من خلالها. ويحاول ابن خلدون، بما أوتي من حسّ تاريخي لا يقنع بظاهر الأمور، أن يتلمّس العلل التي تنحرف بالأمة إلى خلق الذلة والانقياد، فيلاحظ أن بذور المذلّة تزرع وتسقى بمكتسبات المدنية، فالاستقرار يعوّد النفس على التكاسل، ويدرّبها على الانقياد للنظام والخضوع للقانون، وعلى
الصفحة 87
96