وقد انتدبت المردة والجهلة إلى أن يقولوا: إن كل فاضل من الصحابة كان عليه مشاغبًا مؤلبًا، وبما جرى عليه راضيًا، واخترعوا كتابًا فيه فصاحة وأمثال كتب عثمان به مستصرخًا إلى علي، وذلك كله مصنوع؛ ليوغر قلوب المسلمين على السلف الماضين والخلفاء الراشدين218.
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: فالذي ينخل من ذلك أن عثمان مظلوم، محجوج بغير حجة219. وأن الصحابة برآء من دمه بأجمعهم؛ لأنهم أتوا إرادته، وسلموا له رأيه في إسلام نفسه.
ولقد ثبت -زائدًا إلى ما تقدم عنهم- أن عبد الله بن الزبير قال لعثمان: إنا معك في الدار عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منهم، فائذن لنا، فقال: أذكر الله رجلًا أراق لي دمه "أو قال دمًا"220.
__________
218 هذه الكتب المصنوعة والأخبار المبالغ فيها أو المكذوبة شحنت بها أسفار الأخبار وكتب الأدب. ولتمييز الحق فيها من الباطل طريقان: أحدهما طريق أهل الحديث في أن لا يقبلوا إلا الأخبار المسندة إلى أشخاص بأسمائهم، ثم يستعرضوا أحوال هؤلاء الأشخاص، فيقبلوا من صادقهم، ويضربوا وجه الكذاب بكذبه، والطريق الثاني طريق علماء التاريخ: وهو أن يعرضوا كل خبر على سجايا من يخبر عنه، ويقارنوه بسيرته، وهل هو مما ينتظر وقوعه ممن نسب إليه، ويلائم المعروف من سابقته وأخلاقه أم لا، وتمحيص تاريخنا يحتاج إلى هاتين الطريقين معًا يقوم بهما علماء راسخون فيهما."خ".
219 كما تبين في هذا الكتاب بأسانيده القاطعة. وانظر كتاب "التمهيد" للإمام أبي بكر الباقلاني: صـ 220-227."خ".
220 ولما بدأ حجاج بيت الله يعودون إلى المدينة كان أول المسرعين منهم المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي الصحابي، فأدرك عثمان قبل أن يقتل، وشهد المناوشة على باب دار عثمان فجلس على الباب من داخل وقال: ما عذرنا عند الله أن تركناك، ونحن نستطيع ألا ندعهم حتى نموت، وكان أول من برز للبغاة المهاجمين، وقاتل حتى قتل. وخرج معه لقتالهم الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو يقول في تسفيه عمل البغاة:
لا دينهم ديني ولا أنا منهم ... حتى أسير إلى طمار شمام
أي إلى جبل أشم لا ينجو من سقط منه، وخرج معهما محمد بن طلحة بن عبيد الله -وكان يعرف بالسجاد؛ لكثرة عبادته- وهو يقول:
أنا ابن من حامى عليه بأحد ... ورد أحزابًا على رغم معد
انظر تاريخ الطبري: 128:5-129."خ".