كتاب قسم من المعجم الأوسط للطبراني تحقيق ودراسة (اسم الجزء: 1)

وثلاثمائة تُقَدَّرُ بسبعة وثلاثين عامًا تقريبًا، فتلك هي المدة التي قضاها في رحلته العلمية، والله أعلم. (¬١)
لذا فلا عجب مِنْ إمامٍ طاف البلاد والأقطار في مدة تقرب مِنْ نصف عمره، ودخل ستين بلدة تقريبًا (¬٢)، أن يأتي بما لم يأت به غيره مِنْ أهل العلم، فرحمه الله رحمة واسعه، وجعل الجنة مثوانا ومثواه.
وهو القائل - رضي الله عنه -:
طَلَبُ الحَدِيثِ مَذَلَّةٌ وَصَغَارُ ... والصَّبْرُ عَنْهُ تَنَدُّمٌ وشنَارُ
فَاصبِر عَلَى طَلَبِ الحَدِيثِ ... فَإِنَّه مِنْ بَعْد ذُلٍّ عِزَّةٌ وَوَقَارُ (¬٣)

• قلتُ: لمَّا قضى الإمام الطبراني حياته ليلاً ونهاراً في طلب العلم، والانشغال بالعبادة، وبحديث النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، باحثًا وجامعاً، حافظًا وناشراً، مُتفقهًا ومُحققًا، مُدَقِّقًا وناقدًا، رواية وتدوينًا، وحفظًا وتمحيصًا، كان الجزاء مِنْ جنس العمل، حيث إنَّ الله - عز وجل - عَجَّل له البشرى في الدُّنيا برؤية النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام - نسأل الله - عز وجل - أن يمنَّ علينا برؤيته - صلى الله عليه وسلم - في الدُّنيا ومجاورته يوم القيامة -:
قال الإمام يحيى بن مندة: قال أبو القاسم الطبرانيّ: رأيتُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام في شوال سنة ثَلَاث وَعشْرين وثلاثمائة فِي ما بين يهودية أَصْبَهَان، ومهرنيتها في صحراء من صحاريها، وكان مضَارب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مَضْرُوبَة مربعة غير مقببة مغشاة بأغشية بيض حَسَنَة البيَاض، وكان أزواجه - صلى الله عليه وسلم - في المضَارب.
ورأيتُ عَائِشَة بارزة عن مضربٍ مِنْ المضَارب، مُولِّيَةً وجهها نحو المضرب، مرتدية برد أَبيض شَدِيد البيَاض، فَمَرَّ بها طِفْلٌ فدعَتْ له، فَسَمِعْتُ فصاحتها، ولم أنظر إلى وجهها.
فانتهيتُ إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالسٌ على كُرْسِيٍّ، وهو بارزٌ على المضَارب، فَقَبَّلتُ ما بين عَيْنَيْهِ وعاتقيه، ثُمَّ جَلَستُ بين يَدَيْهِ، فَرفعتُ يَديّ، فدعوت لنَفْسي وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات وَالْمُسْلِمين وَالْمُسلمَات دُعَاء كثيرًا، وَرَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - مُقْبِلٌ عَليّ بِوَجْهِهِ مُبْتَسِمٌ لم يفتر عن أنيابه. (¬٤)
_________
(¬١) يُنظر: "العبر في خبر مَنْ غَبر" (٢/ ١٠٦)، "تاريخ الإسلام" (٨/ ١٤٣ - ١٤٤)، "سير النبلاء" (١٦/ ١١٩ - ١٢١).
(¬٢) عدَّها د/محمد أحمد رضوان في رسالته "الحافظ الطبراني وجهوده في خدمة السنة" (ص/٧٤)، وأوصلها إلى (٥٩) بلدة.
(¬٣) أسنده ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٢٢/ ١٦٩) إلى الإمام أبي القاسم الطبراني - رضي الله عنه -. وهذه الأبيات قال بنحوها وزاد عليها الإمام الفضل بن جعفر السلمسيني لمحمد بن جرير الطبري، كما في "المنتخب من معجم شيوخ السمعاني" (١/ ٦٥٥).
(¬٤) يُنظر: "جزءٌ فيه ذكر أبي القاسم الطبراني" للإمام أبي زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن مندة (ص/٤١ - ٤٢).

الصفحة 26