كتاب العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ط العلمية (اسم الجزء: 3)

أحدهما: أنها كراهية تَحْرِيم؛ لظاهر النَّهْيِ، ومبالغة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فِي مَنْعِ مَنْ وَاصَلَ.
والثاني: أَنَّهَا كَرَاهِيَةُ تَنْزِيه؛ لأن النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ مَخَافَة الضَّعْفِ، وهو أمر غَيْرُ متحقق وظاهر كلام الشافعي -رضي الله عنه- هو الأَوَّلُ، فإنه بعد ما روى خبر الوصال قال: "وفرق الله -تعالى- بين رسوله وبين خلقه، في أمور أباحها له، وحظرها عليهم"، فأشعر ذلك بِكَوْنِه مَحْظوراً، وأطلق في "التهذيب" أن المواصل يَعْصى، وذلك يُشْعِرُ بالحظر أيضاً.
ومنها: الجود والإفْضَال، فهو مندوب إليه في جميع الأوقات، وفي شهر رمضان آكد استحباباً اَقتداءً بِرَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه: "كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بالْخَيْرِ، وَكَانَ أجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ" (¬1). والمعنى في تخصيص رمضانَ بِزِيادة الجُود، وإكثار الصَّدقات تَفْرِيغ الصَّائمين، والقائمين للعبادة بدفع حَاجَاتِهِمْ.
ومنها: كثرة تِلاَوَةَ القُرآنِ والمُدَارَسَةِ بهِ، وهو أن يقرأ على غيره، ويقرأ عليه غيره: "كَانَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَلْقَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانِ فَيَتَدَارَسَانِ الْقُرْآنِ" (¬2). ومنها: الاعْتِكَافَ، لا سِيَّمَا في العُشْر الأخير من رمضان لطلب ليلةِ القدر: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُوَاظِبُ عَلَيْهِ" (¬3).
ومِنْها: أَنْ يصَوْمَ الصَّائِم لِسَانَهُ عَنِ الكَذِب، والغِيبَةِ، والمُشَاتَمَةِ، ونحوها، ويكف نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ بِكَفِّ الجَوَارِحِ، فَهُو سِرُّ الصَّوْمِ، والمقصود الأَعْظَمُ مِنْهُ، روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلِ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ" (¬4).
وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِماً، فَلاَ يَرْفَثْ، وَلاَ يَجْهَلْ، فَإنْ امْرؤٌ قَاتَلَهُ، أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ" (¬5) قال الأئمة: معناه فَلْيقل في نفسه ولينزَجر. ومنها: ترك السِّوَاكِ بَعْدَ الزَّوَالِ، لما ذكرنا في "سُنَنِ الوضوء" وأيضاً فقد روي عن خباب -رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا صُمْتُمْ فَاسْتَاكُوا بِالْغَدَاةِ، وَلاَ تَسْتَاكُوا بِالْعَشِيِّ، فَإنَّهُ لَيْسَ مِنْ صَائِمٍ تَيْبَسُ شَفَتَاهُ بِالعشي إِلاَّ كَانَتَا نُوراً بَيْنَ عَيْنَيْهِ يَومَ
¬__________
(¬1) أخرجه البخاري (6، 1902، 3220، 3554، 4997) ومسلم (2307) من رواية ابن عباس -رضي الله عنهما-.
(¬2) انظر التخريج السابق وهو بعض الحديث السابق.
(¬3) أخرجه البخاري (2025) ومسلم (1171) من حديث ابن عمر، وأخرجه البخاري (2026) ومسلم (1172) من حديث عائشة.
(¬4) أخرجه البخاري (6057).
(¬5) أخرجه البخاري (1894، 1904، 5927، 7492، 7538) مسلم (1151).

الصفحة 215