كتاب العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ط العلمية (اسم الجزء: 4)

فأما إذا أتى بما يتأتى الابتداء به، فقد أتى بأحد شِقّي العقد، ولا فرق بين أن يتقدم قول البائع: "بعت" على قول المشتري: "اشتريت"، وبين أن يتقدم قول المشتري: "اشتريت" فيصح البيع في الحالتان، ولا يشترط اتفاق اللَّفظين، بل لو قال البائع: اشتريت فقال المشتري: "تملكت" أو "ابتعت"، أو قال البائع: "ملكت"، فقال المشتري: "اشتريت" صح؛ لأن المعنى واحد.
وقوله: "اعتبر للدلالة على الرّضا" يريد به أن المقصود الأصلي هو التَّرَاضي لئلا يكون واحد منهما آكلاً مال الآخر بالباطل، بل يكونا تاجرين عن تَرَاض، على ما قاله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬1) الآية إلا أن الرِّضا يعتبر أمر باطن، يعسر الوقوف علية، فنِيطَ الحكم باللفظ الظاهر، ثم في بعض النسخ "على الرِّضَا الباطن"، وفي بعضها "على الرِّضا في الباطن " وهما صحيحان، ويتعلق بهذه القاعدة مسائل ثلاث:
إحداها: المُعَاطاة ليست بيعاً على المذهب المشهور؛ لأن الأفعال لا دلالة لها بالوضع، وقصود الناس فيها تختلف.
وعن ابن سريج فيها تخريج قول الشَّافِعِي -رضي الله عنه- أنه يكتفي بها في المُحقرات؛ لأن المقصود الرِّضَا، (وبالقرائن) يعرف حصوله، وبهذا أفتى القاضي الروياني (وغيره) وذكروا المستند التخريج صوراً:
منها: لو عَطِبَ الهَدْي في الطريق فغمس النَّعل الذي قَلَّده بها في الدَّم وضرب بها صَفْحَة سَنَامه، هل يجوز لِلمَارّين الأكل منه؟ ذكرنا فيه قولين وخلافاً سيأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى-.
ومنها: لو قال لزوجته: إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق، فوضعت الألف بين يديه ولم تتلفَّظ بشيء يملكه ويقع الطَّلاَق، وفي الاستشهاد بهذه الصورة نظر.
ومنها: لو قال لغيره: اغسل هذا الثَّوْب فغسله وهو ممن يعتاد الغسل بالأجرة، هل يستحق الأجر فيه؟ خلاف سيأتي ذكره في موضعه، ثم مَثَّلُوا المُحقِّرات بالتّافة من البَقْل، والرَّطل من الخبز، وهل من ضابط؟
سمعت والدي -رحمه الله تعالى- وغيره يحكي ضابطها بما دون نِصَاب السَّرقة، والأشبه الرجوع فيه إلى العادة، فما يعتاد فيه الاقتصار على المُعَاطاة بيعاً ففيه التَّخريج، ولهذا قال صاحب "التَّتمة" مُعَبراً عن التَّخريج: ما جرت العادة فيه بالمعاطاة فهي بيع
¬__________
(¬1) سورة البقرة، الآية 188.

الصفحة 10