كتاب العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ط العلمية (اسم الجزء: 5)

التَّلَفِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، ولم يعتبر فيهم الخِبْرَة البَاطِنَة، وإن شهدوا على إعْسَارِه قبلت بشرط خبرتهم الباطنة.
قال الصَّيْدَلاَنِيُّ: ويحمل قولهم أنه معسر على أنهم وقفوا على تَلَفِ المَالِ.
وإن ادعى المديون أنه معسر لاَ شَيْءَ لَهُ، أو قسم مال المَحْجُورِ على الغرماء وبقي بَعْضُ الدُّيُونِ، وزعم أنه لا يملك شيئاً آخر وأنكر الغُرَمَاءُ، نظر إن لزمه الدَّيْنُ في مقابلة مَالٍ كما إذا ابتاع أو استقرض، أو باع سَلَماً فهو كما لو ادعى هَلاَك المَالِ فعليه البَيِّنَةُ، وإن لزم لاَ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ فثلاثة أوجه:
أصحهما: أنه يقبل قَوْلُه مَعَ اليَمِينِ؛ لأن الأَصْلَ العَدَم.
والثاني: أنه لا يقبل ويحتاج إلى البَيِّنَةِ؛ لأن الظَّاهِرَ منْ حَالِ الحُرِّ أنه يَمْلِك شَيْئاً قَلَّص أمْ كَثُر.
والثَّالِث: أنه إِنْ لزمه باختياره كالصَّدَاقِ والضَّمَانِ لم يقبل قوله وعليه البينة، وإن لزمه لا باختياره كَأَرْشِ الجِنَايَاتِ وغرامة المتلفات قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ اليَمِينِ، والفرق أن الظَّاهِرَ أنه لا يَشْغل ذِمَّتَهُ ولا يلتزم مَا لاَ يَقْدِر عليه، ثم الكلام في فَصْلَيْنِ.
أحدهما: في البَيِّنَةِ القَائِمَةِ على الإِعْسَارِ وهي مسموعة وإن تعلقت بالنفي لمكان الحاجة كالبينة على أن لا وَارِثَ سِوَى هؤلاء، وعن مالك أنها لاَ تُسْمَعُ والنَّظَرُ في أنها مَتَى تُسْمَع وَمَا صِفَةُ الشهود وعددهم وصيغة شَهَادَاتِهِمْ؟ أما متى تسمع فهي مسموعة وإن قامت في الحَالِ خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: "لا تسمع إلا بعد مدة"، ثم هي مقدرة في رِوَايَةِ بِشَهْرٍ، وفي أخرى بشهرين وربما ضبطوا بما يغلب على الظَّنِّ في مثلها أنه لو كَاَن لَهُ مَالٌ لأظهره ويختلف ذلك باخْتِلاَفِ أحْوَالِ النَّاسِ وَطِبَاعِهِمْ.
وأما: الصِّفَة فما يعتبر في الشُّهود مطلقاً يذكر في الشَّهادات، ويعتبر مع ذلك كَونُ الشُّهُودِ منْ أَهْلِ الخِبْرَةِ البَاطِنَةِ بطول الجِوَارِ وكثرة المُجَالَسَةِ والمُخَالَطَةِ، فإن الأموال تخفى ولا يعرف تَفْصيلها إلا بأمثال ذَلِك، ثم إن عرف القاضي أنهم من أهل الخِبْرَة البَاطِنَةِ فَذَاكَ، وإلا جاز له أن يعتمد على قَوْلِهِمْ أنا بهذه الصفة، ذكره في "النهاية".
وأما العَدَدُ فَشَاهِدَانِ كما في سائر الأُمور، وفي كتاب الغوراني والمتولى: أنه لا تقبل هذه الشَّهَادَة إلا من ثَلاثَةٍ، لما روى "أَنَّ رَجُلاً ذَكَرَ لِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ جَائِحَةً أَصَابَتْ مَالَهُ وَسَأَلَهُ أن يُعْطِيَهُ مِنَ الصَّدقَةِ، فَقَالَ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- لاَ حَتَّى يَشْهَدُ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى منْ قَوْمِهِ" (¬1).
¬__________
(¬1) أخرجه مسلم من رواية قبيصة بن مخارق الهلالي (1044) والنسائي (5/ 88) وأبو داود (40/ 16) وأحمد في المسند (3/ 477، 5/ 60).

الصفحة 27