كتاب العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ط العلمية (اسم الجزء: 9)

هذه هي الطريقةُ الظَّاهرة في اختلاط اللَّبَن بالمائعات، وليس فيها فرْق بين أن يكون الاختلاطُ بالماء أو بغيره، ومنْهم مَنْ فرَّق بين الماء وغيره فجَعَل غير الماء على ما ذَكَرْنا، وقال في الماء واللبن: مغلوب فيه، إن امتزج بما دون القُلَّتَيْن، وشَرِب الصبيُّ كلَّه، ففي ثبوت الحرمة قولان، وإن شرب بعْضه، فوجهان أو قولان مُرَتَّبان؛ إن لم تثبت الحرمة في شرب الكل، ففي شرب البعض أوْلَى، وإن ثَبَت في الكل، ففي البعض وجهان؛ للتردد في وصول اللَّبن، وإن امتزج بقلتين فصاعداً، فإن قلْنا: لا تتعلَّق الحرمة بالمغلوب بما دون القلتين، فهاهنا أوْلَى، وإن قلْنا: تتعلَّق، فإن تناول بعْضُه، لم يُؤَثِّر، وإن تناول كلَّه، فقولان مُرَتَّبان على القولَيْن فيما دون القُلَّتَيْن، وأَوْلَى بأن لا يُؤَثِّر، وقد أورد الإِمام -رحمه الله- هذه الطريقة، وعليها جرى صاحب الكتاب، لكن الفرق بين القلتين وغيره رعاه الشَّرْع في أحكام النجاسات؛ لأن القليل يَسْهل إحرازه وصونه عن النجاسات، والكثير يَعْسُر صونه، فجعل ذلك حدًّا فاصلاً بين القليل والكثير، وهاهنا النَّظَر إلى وصول اللبن وعدم وصوله؛ فلا معنى للفرق بين القلتين، وما دون القلتين كما في سائر المائعات؛ وقال أبو حنيفة:. إنْ كان الخَلْط بجامدٍ، كما لو ثُردَ فيه الخبز لم تَتعلَّق به الحرمة، سواءٌ كان اللبن غالباً أو مغلوباً، وإن كان بمائعٍ، فإن كان اللبن غالباً، تعلَّقت الحرمة به، وإلا، فلا.
وقال مالك والمزنيُّ: لا فرق بيْن الجامد والمائع، والحكم للغالب، وفرَّق أحمد في المسألة كقولنا؛ وليُعْلَم في الكتاب لفظ "الجبن والأَقِط" بالحاء؛ لما ذكرنا.
وقوله "ما لم يصر مغلوباً بحيث لا يُؤَثِّر في التغذية قطعاً" فيه إشارة إلى أن معنى صيرورة اللبن (¬1) مغلوباً خرُوجه عن كونه مغذياً، وهذا وجْهٌ محكيٌّ عن رواية الشيخ أبي عليٍّ -رحمه الله-، والظاهر الذي أورده الأكْثَرُونَ أنَّ الاعتبار بصفات اللبن؛ اللون والطعم والرائحة، فإن ظهر شَيْءٌ منها في المخْلُوط، فاللبن غالبٌ، وإلاَّ، فهو مغلوبٌ، ونقل أبو الحسن العبَّادِيُّ في "الرقم" تفريعاً على هذا عن الحليميِّ ما يُفْهِم منه أنه لو زايَلَتْه الأوصاف الثلاثةُ، فيُعْتَبَر قدْر اللبن بمَا لَهُ لونٌ قويٌّ يستولي على الخليط، فإن كان ذلك القَدْر منْه يظهر في الخليط، تثبت الحرمة، وإلا فلا، قال: وهذا شيْءٌ استنبطته أنا، وكان في قلْبي منه شيء حتى عرَضَتْهُ على القفَّال الشَّاشِيِّ وابنه القاسم، فارتضياه، فسَكَنْتُ، ثم وجدتُّه لابن سُرَيْج، فسَكَن قلبي إلَيْه كل السُّكُون، وقد سبق نظير (¬2) ما ذَكَره في اختلاط الماء بما يوافقه في الصِّفات، وفي الحكاية ما يبين ذَهَابَه إلى أن المَغْلُوب من (¬3) اللبن لا يُؤَثِّر.
¬__________
(¬1) في أ: معلوماً.
(¬2) في ز: نظر.
(¬3) في ز: في.

الصفحة 558