كتاب العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ط العلمية (اسم الجزء: 12)

بعضهم في الفتاوى على بَعْضٍ ويحترزون (¬1) عن استعمال الرأي والقياس ما أَمْكَنَ (¬2)، ثم الكلام في ثَلاَثِ جُمَلٍ:
إحداها: في طرف المُفْتِي؛ ويشترط فيه الإِسلام والبلوغ والعدالة، فإن الفاسق لا يوثق بفتواه، نعم، يعمل لنفسه باجتهاده، ويشترط فيه التيقظ وقوة الضبط؛ فلا تُقْبَلُ فتوى من تَغْلِب عليه الغفلة والسهو، ذكره أبو القاسم الصيمريّ.
ويُشتَرط أيضاً أهلية الاجتهاد؛ ليأخذ غيره بقوله، كما أنَّه يُشْتَرَط الاجتهاد في القبلة، ليقلده غيره (¬3) ممن لا يعرف القبلة، ويدل عليه ظاهرُ قَولِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سُئِلَ فَأَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ" (¬4) فلو عرف عرف العاميُّ مسألةً أو مسائلَ بدليلها، لم يكن له أن يفتي فيها, ولم يكن لغيره أن يقلِّد فيها، ويأخذ بقوله، هذا هو الصحيح، ووراءه وجهان حكاهما الصيمريُّ، والقاضي الرويانيُّ في البَحْر:
أحدهما: أنه يجوز؛ لأنه عرف الحكم والدليل.
والثاني: الْفَرْقُ بين أن يَكُون الدليل نقلياً، فيجوز، أو قياساً، فلا يجوز.
والعالم الذي لم يبلُغْ رتبةَ الاجتهاد، كالعاميِّ؛ في أنه لا يجوز تقليده على الصحيح، وموت المجتهد هل يخرجه عن أن يُقَلَّد، ويُؤْخَذَ بقوله؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ لخروجه عن أهلية الاجتهاد، كما لو فسق بعد عدالته. وأيضاً، فإنه لا قول له بعد موته، ألا ترى أن الواحد من الصحابة -رضي الله عنهم- إذا كان يخالف الباقين في مسألة، لم يكن اتفاق الباقين إجماعاً؟ فإذا مات ذلك الواحد، صار إجماعاً، فدلَّ على أنه لم يبق له قولٌ بَعْد موته.
¬__________
(¬1) وقع في "تلخيص الحبير": ويحيدون.
(¬2) رواه ابن أبي خيثمة والرامهرمزي من طريق عطاء بن السائب سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول: لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار، ما منهم أحد يحدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسئل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا، ومن طريق داود بن أبي هند قلت للشعيي: كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم؟ قال؛ على الخبير سقطت، كان إذا سئل الرجل قال لصاحبه افتهم، فلا يزال حتى يرجع إلى الأول، وأخرجه عبد الغني بن سعيد في أدب المحدث من هذا الوجه، وفي مسلم حديث أبي المنهال أنه سأل زيد بن أرقم عن الصرف، فقال: سل البراء بن عازب، فسأل البراء، فقال: سل زيداً، الحديث.
(¬3) سقط من: ز.
(¬4) قال الحافظ في التلخيص لم أره هكذا، وهو مأخوذ من المتفق عليه رواه البخاري [100 - 7307، مسلم 2673] من حديث عبد الله بن عمرو: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً، ففي آخره: فيأتي ناس جهال يستفتون، فيفتون برأيهم، فيضلون ويضلون، لفظ إحدى روايات البخاري، ولهما: اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا، وهي أشهر.

الصفحة 420