كتاب العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ط العلمية (اسم الجزء: 12)

وأصحُّهما: أنه يجوز تقليده، والأخْذُ بقوله، كما إذا شَهِدَ الشاهِدُ، ثم مات يجوز الحُكْم بشهادته، والمسألة المُسْتَشْهَدُ بها ممْنُوعة، ولو بَطَل قول القائل بموته، لَبَطَل الإِجْمَاع بمَوْت المجْمِعِين، ولصارت المسألة اجتهاديةً، وأيضاً فالخَلْق كالمتَّفقين على أنه لا مجتهد الْيَوْم (¬1) فلو مَنَعْنا من تقليد الماضيين لتركنا الناس حَيَارَى، وبنوا على هذين الوجهين، أنَّ مَن عَرَف مَذْهب بعض المجتهدين وتبحَّر فيه، لكنه لم يبلْغُ رتبة الاجتهاد، هل له أن يفتي؟ وهل يُؤْخَذُ بقوله؟ إن قلْنا بالوجه الأوَّل، فلا يجوز، وإن قلنا بالثاني، الأصح، يجوزُ الأخذ بقوله، كأنه لا يقلّده وإنَّما يقلد ذلك المجتهد، هكذا صوروا هذا الفرع.
ولك أن تقول: إنْ كان المأخَذُ ما بيَّنَّا، فلا فرق بين أن يكون متبحِّراً، أو غير متبحِّر، بل العامِّيُّ، إذا عَرَف حُكْم المسألة عنْد ذلك المجتهد، فأخبر عنه، وأخذ غيره به تقليداً للمجتهد الميت، وجب أن يجوز على الأصحِّ (¬2). إذا جوَّزنا الفتوَى إخباراً عن مذْهَب الميِّت، فإنْ عَلِم مِنْ حاله أنه يُفْتِي عَلَى مذْهبٍ واحدٍ معيَّنٍ كفى إطلاق الجواب منه، وإلا فلا بدّ أن يضيفه إلى صاحب المَذْهَب، وليس للمجتهد أن يقلِّد مجتهداً آخر لا ليعمل به، ولا لِيُفْتِيَ به غيره ولا إذا كان قاضياً ليقضي به، خلافاً لمالك وأحمد -رحمهما الله- فيما حكاه في "البَحْر"، ولأبي حنيفة -رحمه الله- في القَاضي.
لنا: أنه يجد ما يتوصّل به إلى معرفة الحُكْم، فلا يجوز له تَقْليد، كما في العقليات.
¬__________
(¬1) قال في الخادم: هذا عجيب، فإن هذه المسألة خلافية بيننا ويين الحنابلة وممن سبق الرافعي إلى هذه العبارة الإِمام فخر الدين الرازي وغيره ونازعه الشيخ ابن دقيق العيد في شرح العنوان وقال هذا إخبار عن أمر وجودي وهو ابتغاء المجتهد وعدمه من الأرض وهو أمر عسر الثبوت لدفع انتشار أقطار الأرض وتعدد الناظرين في الأحكام الشرعية، قال: وقالت الحنابلة لا يخلو العصر عن مجتهد وهذا هو المختار عندنا لكن إلى الحد الذي ترتفع فيه القواعد بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان. انتهى.
وأخذ صاحب الخادم يؤيده بما ذكره في خادمه، لكن الرافعي ما ادعى الإِجماع وإنما قال كالمجمعين فلم ينف الخلاف، وما ذكره الرافعي هو المنقول في المذهب.
(¬2) قول النووي: هذا الاعتراض ضعيف أو باطل؛ لأنه إذا لم يكن متبحراً ربما ظن ما ليس مذهباً له مذهبه، لقصور فهمه، وقلة اطلاعه على مظان المسألة، واختلاف نصوص ذلك المجتهد، والمتأخر منها، والراجح وغير ذلك، لا سيما مذهب الشافعي رحمه الله الذي لا يكاد يعرف ما يفتي به منه إلا أفراد، لكثرة انتشاره، واختلاف ناقليه في النقل والترجيح. فإن فرض هذا في مسائل صارت كالمعلومة علماً قطعياً عن ذلك المذهب، كوجوب النية في الوضوء، والفاتحة في الصلاة، ووجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون، ووجوب تبييت النية في صوم الفرض، وصحة الاعتكاف بلا صوم، وعدم وجوب نفقة البائن الحامل، ووجوب القصاص في القتل بالمثقل وغير ذلك عند الشَّافعي رضي الله عنه، فإهذا حسن محتمل.

الصفحة 421