كتاب العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ط العلمية (اسم الجزء: 12)
العدالة، بخلاف البَحْث عن العِلْم، فإنه ليس الغالب من حال الناس أن يكونوا علماء ثم ذكر احتمالين في أنه، إذا وجب البَحْث، فَيَفْتَقِرُ إلى عددِ التَّواتُر أم يكفي إخبار عدل أو عدلَيْن؟ أقربهما الثاني (¬1).
وإذا وَجَد من المفتين اثْنَيْنِ فَصَاعداً، فهل عليه أنْ يجتهد فيسأل أعلمهم؟ فيه وجهان:
أحدهما: ويُحْكَى عن ابن سُرَيْج: نعم, لأنه لا يتعذَّر عليه هذا القَدْر من الاجتهاد. بخلاف الاجتهاد في الأحكام، وهذا ما اختاره القاضي ابن كج، وكذلك القَفَّال، قال القاضي الحُسَيْن: إنَّ رجلاً سأل القفَّال عَلَى رأس الحدادين بـ"مرو" عن مسألة، فقال القَفَّال: مَنْ أنا؟ فَقَال: أنتَ واحدٌ من الفقهاء، فقال: لا يحلُّ لك أَنْ تعمل بقَوْلي ما لم تَسْأَلْ عن الأعلم في البلد.
وأصحُّهما: عن عامة الأصحاب: أنه يتخيَّر، فيسأل من شاء منهم؛ لأن الأوَّلين كانوا يسألون علماء الصحابة، على تفاوتهم في الفضل والعلْم، ويعملون بقول من سألوه من غير نكير، وذكر صاحب الكتاب في الأصول: أنه إذا كان يعتقد أن أحدهم أعلم، بجزء أن يقلِّد غيره، وإن كان لا يجب عليه البَحْث عن الأعْلَم، إذا لم يعتقد اختصاص أَحَدِهِم بمزيد (¬2).
وإذا سأل المستفتي، ووجد الجواب، فوقعت الحادثة مرةً أخرَى، نُظِرَ، إن عرف
¬__________
(¬1) قال النووي: الاحتمالان فيما إذا لم تعرف العدالة، هما فيمن كان مستوراً وهو الذي ظاهره العدالة ولم يختبر باطنه وهما وجهان ذكرهما غيره، أصحهما الاكتفاء، لأن العدالة الباطنة يعسر معرفتها على غير القضاة، فيعسر على العوام تكليفهم بها، وهذا الخلاف كالخلاف في صحة النكاح بحضور المستورين. أما الاحتمالان في اشتراط عدد التواتر، والاكتفاء بعدل، فهما محتملان، ولكن المنقول خلافهما، فالذي قاله الأصحاب إنه يجوز استفتاء من استفاضت أهليته، وقيل: لا يكفي الاستفاضة، ولا التواتر، بل انما يعتمد قوله: أنا أهل للفتوى، لأن الاستفاضة والشهرة بين العامة لا وثوق بها، فقد يكون أصلها التلبيس، وأما التواتر، فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس، والصحيح الأول، لأن إقدامه عليها إخبار منه بأهليته لأن الصورة فيمن وثق بدينه. ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور بأهليته قال الشيخ أبو إسحاق وغيره: نقبل في أهليته خبر عدل واحد، وهذا محمول على من عنده معرفة يميز بها الملتبس من غيره، ولا يعتمد في ذلك خبر آحاد العامة لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك.
(¬2) قال النووي: هذا الذي قاله الغزالي قد قاله غيره أيضاً وهو وإن كان ظاهراً، ففيه نظر لما ذكرنا من سؤال آحاد الصحابة رضي الله عنهم مع وجود أفاضلهم الدين فضله متواتر وقد يمنع هذا وعلى الجملة المختارة ما ذكره الغزالي. فعلى هذا يلزمه تقليد أورع العالمين، وأعلم الورعين، فإن تعارضا قدم الأعلم على الأصح.