كتاب العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ط العلمية (اسم الجزء: 12)

وإذا قلَّد الأعمى في القبلة، ويُحْرِم بالصلاة، فقال له من هو أعلم من مقلَّده: أخطأ بك، فالقياس، أن يخرج على هذا الخلاف، لكن أطلقوا الجواب أنه كتغير اجتهاد المجتهد، على ما مرَّ في باب الاستقبال.
فَرْع: لا يجبُ أن يكون للمجتهد مذْهَبٌ مدوَّن؛ فإنَّ علماء الصحابة -رضي الله عنهم- لم يدونوا، وإنما كانوا يجتهدون في النوازل بحسب الحاجة، وإذا دونت المذاهب، فهل يجوز للمقلِّد أن ينتقل من مذهب إلى مذهب؟ إن قلنا: يلزمه الاجتهاد في طلب الأعلم وغلب على ظنه أن الثاني أعلم، وجب أن يجوز، بل يجب، وإن قلنا: يتخيَّر، فينبغي أن يجوز أيضاً، كما لو قَلَّدَ في القبلة هذا أياماَ، وهذا أياماً، ولو قَلَّدَ مجتهداً في مسائل وآخر من مسائل أخرى، واستوى المجتهدان عنده، أو قلنا: إنه يتخيَّر فالذي يقتضيه فعل الأولين الجواز؛ لأنهم كانوا يسألون تارَةً من هذا من غير نكير.
وأيضاً، فإن الأعمى إذا قلْنا: إنه لا يجتهد في الثياب والأواني، يجوز له أن يقلِّد في الأواني المشتبهة بصيراً، وفي الثياب غَيْرَه، لكن الأصوليون منعوا منه للمصلحة، وحكى الحناطي وغيره عن أبي إسحاق، فيما إذا اختار من كل مذهب ما هو أهون عليه، أنَّه يفسق به، وعن ابن أبي هريرة أنه لا يفسق (¬1)، والله أعلم.
¬__________
= الاجتهاد، فلا؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، ولا يعلم خلاف هذا لأصحابنا، وما ذكره صاحبا "المستصفى" و"المحصول"، فليس فيه تصريح بمخالفة هذا. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: وإن كان المفتي إنما يفتي على مذهب إمام معين، فرجع لكونه تيقن مخالفة نص إمامه، وجب نقضه، وإن كان اجتهادياً؛ لأن نص إمامه في حقه كنص الشارع في حتى المستقل، وأما إذا لم يعلم المستفتي برجوعه، فكأنه لم يرجع في حقه، ويلزم المفتي إعلامه برجوعه قبل العمل، وذا بعده حيث يجب النقض، وإذا عمل بفتواه في إتلاف، ثم بان أنه أخطأ، وخالف القاطع، فقال الأستاذ أبو إسحاق الإِسفراييني: إن كان أهلاً للفتوى، ضمن، وإلا، فلا، لأن المستفتي مقصر، وهذا الذي قاله فيه نظر، وينبغي أن يخرج على قولي الغرور أو يقطع بعدم الضمان مطلقاً إذ لم يوجد منه الإِتلاف، ولا ألجأ إليه بإلزام.
(¬1) قال النووي: قد استقصى الإِمام الرافعي رحمه الله هذا الباب، فاستوعب وأجاد، وقد استوعبت أنا هذا الباب في أول شرح "المهذب" وجمعت فيه من مجموعات كلام الأئمة ومتفرقاتها هذا المذكور هنا مع مثله أو أمثاله، وأنا أنسر منه هنا نبذاً أشير إليها, ولا التزم ترتيبه.
فيستحب للمعلم والمفتي الرفق بالمتعلم والمستفتي، ليتمكن من الفهم عنه، وقد استوعبت آداب العالم والمعلم في أول شرح "المهذب" وذكرت فيه ما لا ينبغي لطالب علم أن يخفى عليه شيء منه، قال الخطيب الحافظ أبو بكر البغدادي: ينبغي للإِمام أن يتفقد أحوال المفتين، فمن صلح لها، أقره، ومن لم يصلح، منعه، وأمره أن لا يعود، ويواعده على العود. وطريقه في ذلك أن يسأل العلماء المشهورين من أهل عصره عن حاله، ويعتمد خبرهم، وينبغي أن يكون المفتي مع شروطه السابقة متنزهاً عن خوارم المروءة، فقيه النفس، سليم الدهن، رصين الفكر، حسن =

الصفحة 427