كتاب العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ط العلمية (اسم الجزء: 13)

قَالَ الغَزَالِيُّ: الوَصْفُ الثَّانِي: المُرُوءَةُ: فَمَنْ يَرْتَكِبُ مَا لاَ يَلِيقُ بِأَمْثَالِهِ مِنَ المُبَاحَاتِ بِحَيْثُ يُسْخَرُ بِه كالفَقِيهِ يَلْبسُ القَبَاءَ وَالقَلَنْسُوَةَ وَيَأْكُلُ وَيَبُولُ فِي الأَسْوَاقِ أَوْ أَكَبَّ عَلَى اللَّعبِ بالشِّطْرَنْجِ أَوِ الحَمَامِ أَوِ الرَّقْصِ أَوِ الغِنَاءِ فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى خَبَل في عَقْلِهِ أَوْ قِلَّةِ مُبَالاَةٍ فِيهِ فَتَسْقُطُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ وَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالأَشْخَاصِ وَالأحْوَالِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ شَهَادَةَ الكَنَّاس والدَّبَّاغ وَالحَجَّامِ وَالحَائِكِ وَذَوِي الْحِرَفِ الخَسِيسَةِ مَقْبُولَةٌ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ صنْعَةِ آبَائِهِمْ، فأَمَّا اخْتِيَارُ ذَلِكَ مِمَّنْ لاَ يَلِيقُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى خَبَل فِي العَقْلِ وَيَخْرُمُ المُرُوءَةَ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: الأشْهَرُ والأحْسَنُ من اصطلاح الأصحاب -رحمهم الله- إخراجُ المروءة عن حدِّ العدالةِ، وعدُّ المروءة صفَةً برأسها، وعلَى ذلك جَرَى في الكتاب، ومنْهم مَنْ يُدْرج المروءة في العدالة، وكذلك السابقة، وهي التكليفُ، والإِسلامُ، والحريَّةُ، ويقولُ: العدل هو الذي تعتدلُ أحواله دِينًا ومُروءة وأحكاماً، فالاعتدال في الدِّين أن يكونَ مُسْلِماً عفيفاً، وفي المُروءة ما يبينه هذا الفصلُ، وفي الأحكام: ألاَّ يكونَ نَاقِصَ الحكْمِ بِصِباً أو جنونٍ أو رِقٍّ، والفقهُ أنه لا يُقْبَلُ شهادةُ من لا مُروءة له، لأن طرح المُروءة، إما أن يكون بخبَلٍ ونقصانٍ أو لقلَّة مبالاةٍ وحياءٍ، وعلى التقديرَيْن تَبْطُل الثقَةُ والاعتمادُ بقوله: أما المُخَبَّل، فظاهر، وأما من لا حياء له فيصنع ما شاء على ما ورد معناه في الحديث (¬1)، وفي ضَبْط المروءةِ عباراتٌ متقاربةٌ، قيل: صاحبُ المروءةِ هو الذي يَصُون نفْسَه عن الأدناس، ولا يشينها عنْد الناس، وقيل: الذي يتحرَّز عما يُسْخَر منه ويُضْحك به، وقيل: الذي يسير سيرةَ أمثاله في زمانه، وكأنه ممن ترك المروءة لبس ما لا يليق بأمثاله كما إذا لبس الفقيهُ القَبَاء والقَلنسُوة وتردد فيهما في البلاد التي لم تجر عادة الفقهاء فيها بلبس هذا النوع من الثياب كما إذا لبس التَّاجرُ ثَوْب الجمَّالِين، أو تعمَّم الجَمَّال، أو تَطَيْلَسَ، أو ركِبَ البغْلَة الثمينة، وتطوَّف في الأسواق مكشُوفَ الرأس، ويتخذ نفْسه ضحكةً، ومنه المشْيُ في الأسواق مكشوفَ الرأْس والبدن، إذا لم يكُنِ الشخصُ ممَّن يليق به مثلُه، وكذا مدُّ الرِّجلَيْن في مجالس الناس، ومنه الأكلُ في السوق، والشُّرْب من سقايات السوق، إلا أن يكون الشخصُ سُوقيّاً أو شَرَبِ لغَلَبة عَطَش، ومنه أن يُقَبِّلُ الرجلُ زوجتَهُ أو جاريتَهُ بيْن يدَي الناس، وحَكَى لهم ما يجري في الخَلْوة، وأن يكثر من الحكايات المضْحِكَة، ومنْه: أن يخرج عن حسن العشْرة مع الأهْل والجيران، والمعامِلِينَ، ويضايق في اليسير الذي لا يستقصى فيه،
¬__________
(¬1) كأنه يشير إلى حديث: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت. رواه البخاري وأحمد والطبراني من حديث أبي مسعود البدري.

الصفحة 21