كتاب العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ط العلمية (اسم الجزء: 13)

فيختصُّ بردِّ شهادته على الآخر، فإن اقتضت العداوةُ إلى ارتكاب ما يوجِبُ الفسق، فهو مردودُ الشهادة على الإِطْلاق، وإذا عادَاهُ من يريد أن يشْهَد عليه، وبالغ في خصومه، فلَمْ يُجِب، وسكَتَ، ثَم شهد عليه، قُبِلتْ شهادته، وإلا اتخذ الخصماءُ ذلك ذريعةً إلَى إسقاط الشهادات، هكذا حكاه القاضي الرويانيُّ عن القَفَّال، وذكره جماعة، منْهم صاحبُ "التهذيب" وأورد في "باب اللِّعَان" بأنَّ شهادة المقْذُوف على القاذِفِ قَبْل طلب الحَدِّ مقبولةٌ، وبعْد الطلب غيرُ مقبولة؛ لظهورِ العداوة، وأنه لو شهد بعْدَ الطَّلَب، ثم عما، وأعاد تلْكَ الشهادة، لا يُقْبَل؛ كالفاسق، إذا شَهِد، ثم تَاب، وأعاد تلْكَ الشَّهَادة (¬1) وأنه لو شَهِد قبل الطلب، ثُمَّ طلب قبل الحكم، لم يحكم بشهادته، كما لو فَسَق الشاهِدُ قبل الحكم، لكنْ في "تعليق الشيخ" أبي حامد وغيره: أن الشافعيَّ -رضي الله عنه- صَوَّر العدَاوَةَ الموجبة للرِّدِّ فيما إذا قذَفَ رجلٌ رجلاً، وادَّعَى عليه أنَّه قطَع الطريقَ علَيْه، وأخذ مالَهُ، فقال: يصيرانِ عدُوَّيْنِ، فلا تُقْبَلُ شهادةُ واحد منهما على الآخرِ، فاكتفى بالقَذْف دليلاً على العدَاوَة، ولم يَتعرَّض لطلب الحد، قال القاضي الرويانيُّ: ولعل القفَّال أرادَ غَيْر صورة القَذْف، ثم على ما ذكره في "التهذيب": الحكم غير منوط بأن يطلب المقذوفُ الحدَّ بل بأن يظهر العداوة؛ لأنه قال: لو شهدَ رجُلٌ عَلَى رجلٍ، وقال: قذفني، وقذف زوجَتِي، وفلاناً، ثم تُقْبَلْ شهادتَهُ لفلان؛ لأنه أظْهَرَ العداوةَ بقوله: قذفَنِي وقذف (¬2) زوْجَتِي، بيْنه وبين المشهودِ عَلَيْه، ولو قال: قذف أمِّي وفلاناً، لم تُقْبَلْ شهادته للأم، وفي قبولها لفلانٍ قَوْلاَ التَّبْعِيضِ، قال: لأن سبب الردِّ في الصورة الأولَى العداوةُ بينه وبينْ المشهود عليه، فيعمُّ أثرها، وسبب الرد في الصورة الثانيةِ البعضيَّةُ، فجاز أنْ يختصَّ أثرُهَا بالأمِّ والردُّ هنا للبعضيَّة، فلا يورث تهمة في غير الأم بالأم.
وقد يقول الناظِرُ: لِمَ كان قولُه: "قذَفَ زوْجَتِي" إظهاراً للعداوة، ولم يكُنْ قوله: "قذَف أمِّي" إظهاراً لها، وقد يقُول: إن كان قول المقذوف "قذفني" دليلاً على العَدَاوَةِ، فنَفْسُ قذْفِ القاذِفِ أدلُّ عليها، فهلاَّ اكتفى به كَمَا دلَّ عليه النصُّ، ولا شك أنه لو شَهِدَ عَلَى إنسان، فقذَفِ المشْهودُ علَيْه، لم يَمْنع ذلك من الحُكْم بشهادته، وقد نصَّ عليه.
والعداواتُ الدينيَّةُ لا تُوجِبُ ردَّ الشهادة، بل تُقْبَلُ شهادة المسلم عَلى الكافِرِ والسُّنَّيِّ على المبتَدِع، وكذا من أبغض الفاسِقَ لِفِسْقه، لم تُرَدِّ شهادته عليه، ولو قال العالم الناقد: لا تسْمَعُوا الحديثَ منْ فلانٍ فإنه مخلِّطٌ ولا تَسْتَفْتُوا منْه، فإنه لا يُحْسِن الفتوى لم تردَّ شهادته لأن هذا نُصْحٌ للناسِ، نصَّ عليه الشافعيُّ -رضي الله عنه- وتقبل
¬__________
(¬1) سقط من: أ.
(¬2) في ز: أو قذف.

الصفحة 29