كتاب العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ط العلمية (اسم الجزء: 13)

بالقول، فهل يستبرأ المدَّة المذكورة، إذا عُرِفَ عدلاً إلى أن قَذَف، يُنْظَر؛ إن كان القذفُ على صورة الشهادَةِ، فلا حاجة إلَيْه وحَكَى الإِمامُ طريقة أخرَى؛ أنه على قولَيْن، كما سنذكر في القذْفِ علَى صورة السبِّ والإِيذاءِ، والظاهرُ الفرقُ، فإن ذلك فسقٌ مقطوعٌ فيه، والفسق عند الشهادة غيرُ مقطوع به، ولهذا تُقْبل روايةُ من شهد بالزنا، وإن لم يتعب؛ ألا ترى أنهم كانوا يَرْوُنَ عن أبي بَكرة الثقفيِّ -رضي الله عنه- ولم يتب وروايةُ مَنْ قَذَفَ سباً غير مقبولة وبتأيد ذلك بقَوْل عمر -رضي الله عنه- في القصَّة المشْهُورة لأبي بَكْرَةَ تُبْ أَقْبَلَ شَهَادَتَكَ (¬1) وإن كان قَذْفَ سَبٍّ وإيذاءٍ فظاهر نصِّ "المختصر": أنه لا يُشترطُ الاستبراء وتُقبل شهادته في الحَال، وعن نصِّه -رضي الله عنه- في "الأم": أنه يُشترطُ، وفيهما طريقان؛ الأشهر أن المسألة على قولَيْن:
أحدُهُمَا: لا يُشْترط؛ لأن القاذفَ يحتمل أن يكون صادقاً، فلا حاجة فيه إلى التشديد والاحتياط، ويُحْكَى هذا عن أحمد -رحمه الله-.
وأصحُّهما: الاشتراط؛ على ما قال تعالَى {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [آل عمران: 89] وصار كما في سائر المعاصِي، وتركهما منزلون على حالَيْن، وذكروا للتنزيل وجوهاً:
أَحَدها: حمل ما في "المختصر" على ما إذا لم يصرِّح بتكذيب نفْسه، وحمل ما في "الأم" على ما إذا صَرَّح.
والثاني: حمل الأوَّل عَلَى ما إذا طال الزمانُ بعْد القذف، وحسنت السيرة، ثم تاب بالقول، وحمل الثاني على ما إذا لم يطل.
¬__________
(¬1) قال الحافظ في التلخيص: [رواها] البيهقي من طريق الشافعي أنا سفيان سمعت الزهري يقول: زعم أهل العراق أن شهادة المحدود لا تجوز، فأشهد لقد أخبرني فلان أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكرة: تب نقبل شهادتك، أو إن تبت تبلت شهادتك، قال سفيان: سمي الزهري الذي أخبره، فحفظته ونسيته، وشككت فيه، فلما قمنا سألت من حضر، فقال لي عمر بن قيس: هو سعيد بن المسيب، قال الشَّافعي: فقلت فهل شككت فيما قال لك؟ قال: لا، هو سعيد بن المسيب من غير شك، وقد رواه غيره من أهل الحفظ عن سعيد بلا شك، ورواه البيهقي من طرق، وعلقه البخاري بالجزم، وأما قول الرافعي: وكان الصحابة يروون عنه ولم يتب، فقد روى عنه عمر بن شبة في أخبار البصرة أنه أبى أن يتوب من ذلك، وروى محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: جلد عمر بن الخطاب أبا بكرة، ونافعاً، وشبلاً، ثم استتاب نافعاً، وشبلاً، فتابا، فقبل شهادتهما، واستتاب أبا بكرة فأبى، وأقام، فلم يقبل شهادته، وكان أفضل القوم، وروى أبو داود الطيالسي عن قيس بن الربيع عن سالم الأفطس عن سفيان بن عاصم، قال: كان أبو بكر إذا أتاه رجل ليشهده، قال: اشهد غيري، وأما قوله: وكانت الصحابة يروون عنه، ففيه نظر، فإني لم أقف في شيء من الأسانيد على رواية أحد من الصحابة عن أبي بكرة، وأكبر من روى عنه أبو عثمان النهدي، والأحنف بن فيس.

الصفحة 41