كتاب بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 4)

قوله: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠)}
[الفجر: ١٩ - ٢٠].
وكذلك إذا وقعتْ بين جملتينِ متضادَّتَيْنِ أفادت تقريرَ كلِّ واحدة منهما، كقوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: ١٦٩] فالمقصود تقريرُ الطلبِ والخَبَرِ، وكذلك قولُكَ: "لا تَضْرِبْ زَيْدًا بل اضْرِبْ عمْرًا" وكذلك: "ما قامَ زَيْدٌ بل قامَ عَمْرٌو" فهي في ذلك كلِّه لتقريرِ الجملتينِ، وكذلك قولُه تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: ٤٠ - ٤١] المعنى: أنكم إذا نزل بكم هذا الأمرُ العظيمُ لا تدعونَ غيرَ اللهِ، بل تدعونَهُ وحدَهُ، فهو تقريرٌ لتركِ دعائِهم آلهتَهم، ولدعائِهم الإلهَ الحقَّ وحدَه، فيدخلُ في مثلِ ذلك على مقرَّرٍ بعدَ مقَرَّرٍ، والأوَّل تارةً يكونُ تقريرُه تَوْطِئةً للثاني، كقوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٤)} [الفرقان: ٤٤] وتارةً لا يكون توطئة كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: ٣١] وتارةً يدخلُ على كلام مقرَّر بعد كلام مردودٍ، كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦)} [الأنبياء: ٢٦] وفي مثل هذا يظهرُ معنى الإضرابِ، وليس المرادُ به الإضراب عن الذِّكر، بل الإضرابُ عن المذكور ونفيُه وإبطالُه.
وتارةً يأتي لتقريرِ كلامٍ بعد كلامٍ قد رَجَعَ عنه المتكلِّم، إما لغَلَطٍ أو لظهورِ رأيٍ أو لعُروضِ نسيانٍ، وذلك كلُّه إمَّا في الإخبارِ وإما في المُخْبَرِ به: فمثال الأولِ (¬١): أن تقولَ: "أنتَ عَبْدي بل سَيِّدي".
---------------
(¬١) "فمثال الأول" ليست في (ظ).

الصفحة 1657