كتاب تفسير البيضاوي = أنوار التنزيل وأسرار التأويل (اسم الجزء: 1)

ورفعها الباقون على أنها الاسم والخبر تديرونها أو على كان التامة. وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ هذا التبايع، أو مطلقاً لأنه أحوط. والأوامر التي في هذه الآية للاستحباب عند أكثر الأئمة. وقيل: إنها للوجوب ثم اختلف في إحكامها ونسخها. وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يحتمل البناءين، ويدل عليه أنه قرئ «وَلاَ يُضَارَّ» بالكسر والفتح. وهو نهيهما عن ترك الإِجابة والتحريف والتغيير في الكتب والشهادة، أو النهي عن الضرار بهما مثل أن يعجلا عن مهم ويكلفا الخروج عما حد لهما، ولا يعطى الكاتب جعله، والشهيد مؤنة مجيئه حيث كان. وَإِنْ تَفْعَلُوا الضرار أو ما نهيتم عنه. فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ خروج عن الطاعة لا حق بكم.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة أمره ونهيه. وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ أحكامه المتضمنة لمصالحكم. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ كرر لفظه الله في الجمل الثلاث لاستقلالها، فإن الأولى حث على التقوى، والثانية وعد بإنعامه، والثالثة تعظيم لشأنه. ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية.

[سورة البقرة (2) : آية 283]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي مسافرين. وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فالذي يستوثق به رهان، أو فعليكم رهان، أو فليؤخذ رهان. وليس هذا التعليق لاشتراط السفر في الإِرتهان كما ظنه مجاهد والضحاك رحمهما الله تعالى لأنه عليه السلام رهن درعه في المدينة من يهودي على عشرين صاعاً من شعير أخذه لأهله، بل لإِقامة التوثق للإِرتهان مقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مظنة إعوازها. والجمهور على اعتبار القبض فيه غير مالك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فرهن» كسقف وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون: وقرئ بإسكان الهاء على التخفيف. فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي بعض الدائنين بعض المديونين واستغنى بأمانته عن الارتهان. فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ أي دينه سماه أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به. وقرئ «الذي ايتمن» بقلب الهمزة ياء، و «الذي أتمن» بإدغام الياء في التاء وهو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها فلا تدغم. وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في الخيانة وإنكار الحق وفيه مبالغات. وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ أيها الشهود، أو المدينون والشهادة شهادتهم على أنفسهم. وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ أي يأثم قلبه أو قلبه يأثم. والجملة خبر إن وإسناد الإِثم إلى القلب لأن الكتمان مقترفه ونظيره: العين زانية والأذن زانية. أو للمبالغة فإنه رئيس الأعضاء وأفعاله أعظم الأفعال، وكأنه قيل: تمكن الإِثم في نفسه وأخذ أشرف أجزائه، وفاق سائر ذنوبه.
وقرئ «قَلْبَهُ» بالنصب كحسن وجهه. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تهديد.

[سورة البقرة (2) : آية 284]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقاً وملكاً. وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يعني ما فيها من السوء والعزم عليه لترتب المغفرة والعذاب عليه. يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يوم القيامة. وهو حجة على من أنكر الحساب كالمعتزلة والروافض. فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ مغفرته. وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه، وهو صريح في نفي وجوب التعذيب. وقد رفعهما ابن عامر وعاصم ويعقوب على الاستئناف، وجزمهما الباقون عطفاً على جواب الشرط، ومن جزم بغير فاء جعلهما بدلاً منه بدل البعض من الكل أو الاشتمال كقوله:
مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنَا فِي دِيَارِنَا ... تجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا

الصفحة 165