كتاب بين الرشاد والتيه

خطوة من انحناء رأسه، وأحيانا بفعل الكلمة الجارحة التي يطلقها الطرف الأول. فعندما يكتب (برودون) كتابه (فلسفة الفقر) ليبين فيه مأساة الإنسانية الجائعة، يقذفه ماركس بكتابه (فقر الفلسفة) ليرد المأساة إلى بعد واحد يدمج فيه الاقتصاد والعلم.
لقد كانت هذه (القذيفة) علاقة الزمن، علاقة تشير إلى الزمن الذي نعيشه الآن، حتى إن أحد معاصرينا من العالم الثالث، ولعله كان يخشى ألا يظهر بالمظهر العلماني البعيد عن الأخلاق، يكتب في الموضوع هذه الكلمات: ((فعندما نشيد بالأخلاق فكأنما نشيد بالأخلاقية وبالفقرانية))!! فصياغة هذه الكلمات نفسها، تدل على أن الانفصال أو الطلاق بين العلم والمضير قد أصبح شائعا في المجال الذي تغطيه ثقافة القرن التاسع عشر العلمانية، كما تدل على الاتجاه الذي يتسع فيه هذا الانفصال.
ولو شئنا تلخيصا يوضح الموضوع لقلنا: إن العلم يزعم أنه يستطيع أن يحتل الجامعات، والمختبرات، والمصانع، ويترك للأخلاق مجال الرواسب التي صنعها هو، والتي تكدست حول المدن الصناعية أو في تلك المدن من صفائح القصدير، يسودها الفقر المدقع وهي تحيط بالمدن الكبيرة في العالم الثالث.
ويريد العلم، أن يمثله الرجل الذي يستيقظ في الثامنة صباحا ويذهب إلى عمله في سيارته، وفي يده أو تحت إبطه محفظته الفخمة، ويترك للأخلاق أن يمثلها الرجل الذي يستيقظ في السادسة صباحا ويذهب إلى عمله سيرا على الأقدام أو على دراجة وغذاؤه في كيس من الورق.
ولا مرد لهذا!! .. فكلما تحطمت وحدة الإنسان إلى جزأين: واحد يسمى الكائن المعنوي، والآخر الكائن الموضوعي .. فإن الأمر سيؤول إلى تجزئة الأمة، وبالتالي وبإطراد سريع، إلى تجزئة الإنسانية.

الصفحة 74