كتاب بين الرشاد والتيه

إن (الإجماع) هو بالتالي القياس الجوهري الذي يميز سياسة ناجعة. ومن هنا تبدأ قضية الايديولوجية تطرح نفسها، لا على أنها مجرد اقتراح يستحسن، كثيرا أو قليلا، في مجال الافكار، بل بوصفها مشروعا حيويا به يكون للسياسة تأثير حقيقي على الواقع المحسوس في الوطن.
فلنتفحص عوامل هذا التأثير على الواقع، الذي لا يتسنى- ونحن نكرر هذا- إلا إذا تجانس عمل الدولة مع عمل الفرد.
ولا يمكن لتجانس كهذا أن يتحقق في غير ضمير الفرد، باعتباره مصالح حيوية مشتركة، ومسلمات متفق عليها بين جمهور من الناس يكون جسم الأمة وإجماعها.
فإذا تضاربت المصالح هذه أو اختلفت هذه المسلمات، فلن تكون السياسة سوى دكتاتورية كما تعرفها بكل أسف كثير من بلدان العالم الثالث، وهي بالتالي لن تستطيع أن تنسجم في الحقيقة مع مصائر الأمة ولا أن تحقق أهدافها.
وهذه الاستحالة تنتج أولا عن رفض الأمة تجاه هذه السياسة، رفضا يفصل الدولة معنويا عن الوطن، وثانيا عن عجز هذه السياسة في التأثير على نشاط كل فرد، وبالتالي عجزها في تحريك الطاقات الاجماعية الموجودة في اتجاه معين، نحو هدف محدد تدركه أغلبية المواطنين.
إن التعاون بين الدولة والفرد، على الصعيد الإجتماعي والإقتصادي والثقافي، هو العامل الرئيسي في تكوين سياسة تؤثر حقيقة في واقع الوطن. وإذا ما تعذر هذا العامل، فإن القطيعة المعنوية سوف تعزل الدولة عن الوطن وتشل الطاقات الإجتماعية، أو (والأمر هنا أدهى وأمر) تشتتها تشتيتا تكون نتائجه: عدم الانسجام وعدم التناغم، ومعارضات طاغية في فوضى شاملة، يسودها شعار (عليك خاصة نفسك)، ذلك الشعار الذي تدين به

الصفحة 82