كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 2)

الْعَشَرَةِ
وَإِنَّمَا وَجَبَ رُبْعُ الْعُشْرِ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا كَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَلِحَدِيثِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ فِي الذَّهَبِ وَعَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِالْوُجُوبِ تَبَعًا لِلْقُدُورِيِّ فِي قَوْلِهِ الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ قَالُوا: لِأَنَّ بَعْضَ مَقَادِيرِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا ثَبَتَتْ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ
وَقَدْ صَرَّحَ السَّيِّدُ نَكْرَكَانُ فِي شَرْحِ الْمَنَارِ أَنَّ مَقَادِيرَ الزَّكَوَاتِ ثَبَتَتْ بِالتَّوَاتُرِ كَنَقْلِ الْقُرْآنِ وَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَهَذَا يَقْتَضِي كُفْرَ جَاحِدِ الْمِقْدَارِ فِي الزَّكَوَاتِ قُيِّدَ بِالنِّصَابِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ وَلَوْ كَانَ نُقْصَانًا يَسِيرًا يَدْخُلُ بَيْنَ الْوَزْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي كَمَالِ النِّصَابِ فَلَا يُحْكَمُ بِكَمَالِهِ مَعَ الشَّكِّ كَذَا فِي الْبَدَائِعِ (قَوْلُهُ: وَلَوْ تِبْرًا أَوْ حُلِيًّا) بَيَانٌ لِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَصْكُوكِ وَغَيْرِهِ كَالْمَهْرِ الشَّرْعِيِّ، وَفِي غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ مَا لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ نِصَابًا مَصْكُوكًا مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ لُزُومَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُتَقَوِّمِ، وَالْعُرْفُ أَنْ تُقَوَّمَ بِالْمَصْكُوكِ، وَكَذَا نِصَابُ السَّرِقَةِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ قَالَ فِي ضِيَاءِ الْحُلُومِ التِّبْرُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ قَبْلَ أَنْ يُصَاغَا وَيُعْمَلَا وَحُلِيُّ الْمَرْأَةِ مَعْرُوفٌ وَجَمْعُهُ حُلِيٌّ وَحُلِيٌّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا قَالَ تَعَالَى {مِنْ حُلِيِّهِمْ} [الأعراف: 148] يُقْرَأُ بِالْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا اهـ.
وَالْمُرَادُ بِالْحُلِيِّ هُنَا مَا تَتَحَلَّى بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَوْهَرُ وَاللُّؤْلُؤُ بِخِلَافِهِ فِي الْأَيْمَانِ فَإِنَّهُ مَا تَتَحَلَّى بِهِ الْمَرْأَةُ مُطْلَقًا فَتَحْنَثُ بِلُبْسِ اللُّؤْلُؤِ أَوْ الْجَوْهَرِ فِي حَلِفِهَا لَا تَتَحَلَّى وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُرَصَّعًا عَلَى الْمُفْتَى بِهِ
وَدَلِيلُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ أَحَادِيثُ فِي السُّنَنِ مِنْهَا «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَائِشَةَ لَمَّا تَزَيَّنَتْ لَهُ بِالْفَتَخَاتِ أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ قَالَتْ لَا قَالَ هُوَ حَسْبُك مِنْ النَّارِ» وَالْفَتَخَاتُ جَمْعُ فَتْخَةٍ، وَهِيَ الْخَاتَمُ الَّذِي لَا فَصَّ لَهُ، وَفِي الْمِعْرَاجِ وَأَمَّا حُكْمُ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ وَالْأَوَانِي يَخْتَلِفُ بَيْنَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْ عَيْنِهَا وَبَيْنَ أَدَائِهَا مِنْ قِيمَتِهَا مَثَلًا لَهُ إنَاءُ فِضَّةٍ وَزْنُهُ مِائَتَانِ وَقِيمَتُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ فَلَوْ زَكَّى مِنْ عَيْنِهِ زَكَّى رُبْعَ عُشْرِهِ وَلَوْ أَدَّى مِنْ قِيمَتِهِ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعْدِلُ إلَى خِلَافِ جِنْسِهِ، وَهُوَ الذَّهَبُ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ مُعْتَبَرَةٌ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ أَدَّى خَمْسَةً مِنْ غَيْرِ الْإِنَاءِ سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَقْصُورٌ عَلَى الْوَزْنِ فَلَوْ أَدَّى مِنْ الذَّهَبِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ مِنْ غَيْرِ الْإِنَاءِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ فَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ وَقَعَتْ عَنْ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ كَذَا فِي الْإِيضَاحِ، وَفِي الْبَدَائِعِ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَضْرُوبًا أَوْ تِبْرًا أَوْ حُلِيًّا مَصُوغًا أَوْ حِلْيَةَ سَيْفٍ أَوْ مِنْطَقَةٍ أَوْ لِجَامٍ أَوْ سَرْجٍ أَوْ الْكَوَاكِبِ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْأَوَانِي وَغَيْرِهَا إذَا كَانَتْ تَخْلُصُ عَنْ الْإِذَابَةِ سَوَاءٌ كَانَ يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِلنَّفَقَةِ أَوْ لِلتَّجَمُّلِ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا. اهـ.
(قَوْلُهُ: ثُمَّ فِي كُلِّ خُمُسٍ بِحِسَابِهِ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَحَدُ الْأَجْزَاءِ الْخَمْسَةِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ مِنْ الْمِائَتَيْنِ وَأَرْبَعَةُ مَثَاقِيلَ مِنْ الْعِشْرِينَ دِينَارًا فَيَجِبُ فِي الْأَوَّلِ دِرْهَمٌ، وَفِي الثَّانِي قِيرَاطَانِ أَفَادَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيمَا نَقَصَ عَنْ الْخُمُسِ فَالْعَفْوُ مِنْ الْفِضَّةِ بَعْدَ النِّصَابِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَإِذَا مَلَكَ نِصَابًا وَتِسْعَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا فَعَلَيْهِ سِتَّةٌ، وَالْبَاقِي عَفْوٌ، وَهَكَذَا مَا بَيْنَ الْخُمُسِ إلَى الْخُمُسِ عَفْوٌ فِي الذَّهَبِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: يَجِبُ فِيمَا زَادَ بِحِسَابِهِ مِنْ غَيْرِ عَفْوٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «، وَفِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِهِ» وَلَهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ «لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا» وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ» وَلِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ، وَفِي إيجَابِ الْكُسُورِ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ، وَفِي الْمِعْرَاجِ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ لَا تَأْخُذُ مِنْ الشَّيْءِ الَّذِي يَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ كُسُورًا فَسَمَّاهُ كُسُورًا بِاعْتِبَارِ مَا يَجِبُ فِيهِ وَقِيلَ مِنْ زَائِدَةٍ، وَفِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ اهـ.
وَمِمَّا يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ مَضَى عَلَيْهَا عَامَانِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQتَبَادُرَ الذِّهْنِ إلَى الْعُرْفِ أَقْرَبُ مِنْ تَبَادُرِهِ إلَى الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: وَقَدْ صَرَّحَ السَّيِّدُ نَكْرَكَانُ إلَخْ) ذَكَرَ ذَلِكَ تَعَقُّبًا لِمَا قَالُوهُ فِي تَوْجِيهِ تَعْبِيرِ الْقُدُورِيِّ بِوَاجِبَةٍ قَالَ فِي السِّرَاجِ: وفِي هَذَا أَيْ التَّوْجِيهِ الْمَذْكُورِ نَظَرٌ فَإِنَّ أَهْلَ الْأُصُولِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَقَادِيرَ الزَّكَوَاتِ ثَبَتَتْ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، وَأَنَّ جَاحِدَهَا يَكْفُرُ فَيُحْمَلُ كَلَامُهُ أَيْ الْمُوَجَّهِ عَلَى مَقَادِيرِ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْ الدِّرْهَمِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النُّصُبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ
(قَوْلُهُ: زَكَّى رُبْعَ عُشْرِهِ) أَيْ يُعْطِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ قِيمَتُهَا سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِبْرِيقِ الْآتِيَةِ قَرِيبًا (قَوْلُهُ: فَسَمَّاهُ كُسُورًا بِاعْتِبَارِ مَا يَجِبُ فِيهِ) فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الْحَالِّ وَإِرَادَةِ الْمَحَلِّ فَإِنَّ الْأَمْوَالَ مَحَالُّ لِلزَّكَاةِ كَذَا فِي السَّعْدِيَّةِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْجَارُ مُتَعَلِّقٌ بِتَأْخُذْ، وَشَيْئًا مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ (قَوْلُهُ: وَفِيهِ نَوْعٌ تَأَمَّلْ) لَعَلَّ وَجْهَهُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ بِهِ عَلَى هَذَا لَفْظَ الْكُسُورِ، وَيَبْقَى «شَيْئًا» بِلَا كَبِيرِ فَائِدَةٍ، وَأَيْضًا فَمِنْ شُرُوطِ زِيَادَتِهَا أَنْ يَكُونَ مَجْرُورهَا نَكِرَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْأَخْفَشِ قُلْت: وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْكُسُورِ بَيَانًا لِقَوْلِهِ «شَيْئًا» ثُمَّ رَأَيْته فِي الْحَوَاشِي السَّعْدِيَّةِ (قَوْلُهُ: وَمِمَّا يُبْتَنَى عَلَى هَذَا الْخِلَافِ إلَخْ) وَيُبْتَنَى عَلَيْهِ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ فِي السِّرَاجِ رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ فِي الْأُولَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَفِي الثَّانِيَةِ

الصفحة 243