كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 2)

كُلُّ مَنْ دَفَعَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَا فِي يَدِ الْجَابِي مِائَتَيْنِ جَازَتْ زَكَاتُهُ، وَمَنْ دَفَعَ بَعْدَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفَقِيرُ مَدْيُونًا فَيُعْتَبَرُ هَذَا التَّفْصِيلُ فِي مِائَتَيْنِ تَفْضُلُ بَعْدَ دَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ جَازَ الْكُلُّ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ هُوَ وَكِيلٌ عَنْ الْفَقِيرِ فَمَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ يَمْلِكُهُ، وَفِي الثَّانِي وَكِيلُ الدَّافِعِينَ فَمَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مَلَكَهُمْ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَلِلْغَنِيِّ أَنْ يَشْتَرِيَ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ مِنْ الْفَقِيرِ وَيَأْكُلَهَا، وَكَذَا لَوْ وَهَبَهَا لَهُ عُلِمَ أَنَّ تَبَدُّلَ الْمِلْكِ كَتَبَدُّلِ الْعَيْنِ فَلَوْ أَبَاحَهَا لَهُ، وَلَمْ يَمْلِكْهَا مِنْهُ ذَكَرَ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ لِلْغَنِيِّ وَقَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ يَحِلُّ كَذَا فِي الْفَوَائِدِ التَّاجِيَّةِ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَوْ كَانَتْ كَافِيَةً لَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي وَاقِعَةِ بَرِيرَةَ «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ» كَمَا لَا يَخْفَى إلَّا أَنْ يُقَالَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْهَاشِمِيِّ وَالْغَنِيِّ
وَإِنْ قِيلَ بِهِ فَصَحِيحٌ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشُّبْهَةَ فِي حَقِّ الْهَاشِمِيِّ كَالْحَقِيقَةِ بِدَلِيلِ مَنْعِ الْهَاشِمِيِّ مِنْ الْعِمَالَةِ بِخِلَافِ الْغَنِيِّ، وَدَخَلَ تَحْتَ النِّصَابِ النَّامِي الْمَذْكُورِ أَوَّلًا الْخُمُسُ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ فَإِنْ مَلَكَهَا أَوْ نِصَابًا مِنْ السَّوَائِمِ مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ يُسَاوِي مِائَتِي دِرْهَمٍ أَوْ لَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ شُرَّاحُ الْهِدَايَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ، وَفِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ قَوْلُهُ: وَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى مَنْ يَمْلِكُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَطِيبُ لِلْآخِذِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الدَّفْعِ جَوَازُ الْأَخْذِ كَظَنِّ الْغَنِيِّ فَقِيرًا اهـ.
وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُصَرَّحَ بِهِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُهَا لِمَنْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ كَمَا يَجُوزُ دَفْعُهَا نَعَمْ الْأَوْلَى عَدَمُ الْأَخْذِ لِمَنْ لَهُ سَدَادٌ مِنْ عَيْشٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَدَائِعِ

(قَوْلُهُ وَعَبْدِهِ وَطِفْلِهِ) أَيْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ، وَمَا أُلْحِقَ بِهَا لِعَبْدِ الْغَنِيِّ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْعَبْدِ يَقَعُ لِمَوْلَاهُ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَصْرِفٍ كَذَا فِي الْكَافِي فَأَفَادَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَبْدِ غَيْرُ الْمَدْيُونِ الْمُسْتَغْرِقِ لِمَا فِي يَدِهِ وَرَقَبَتِهِ، وَأَمَّا هُوَ فَيَجُوزُ دَفْعُهَا لَهُ لِعَدَمِ مِلْكِ الْمَوْلَى إكْسَابَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ الْإِمَامِ لِمَا عُرِفَ خِلَافًا لَهُمَا وَأَطْلَقَ الْعَبْدَ فَشَمِلَ الْقِنَّ وَالْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ وَالزَّمِنَ الَّذِي لَيْسَ فِي عِيَالِ مَوْلَاهُ، وَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَوْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَخِيرِ وَاخْتَارَهُ فِي الذَّخِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي وُقُوعَ الْمِلْكِ لِمَوْلَاهُ بِهَذَا الْعَارِضِ وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ عِنْدَ غَيْبَةِ مَوْلَاهُ الْغَنِيِّ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْكَسْبِ لَا يَنْزِلُ عَنْ حَالِ ابْنِ السَّبِيلِ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْمِلْكَ هُنَا يَقَعُ لِلْمَوْلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: سَوَاءٌ كَانَ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ لَا) تَبِعَهُ عَلَى هَذِهِ أَخُوهُ وَتِلْمِيذُهُ فِي الْمِنَحِ وَجَزَمَ فِي الشرنبلالية بِأَنَّهُ وَهَمٌ، قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ خِلَافَهُ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ فِي فَنِّ الْمُعَايَاةِ فَقَدْ نَاقَضَ نَفْسَهُ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ شُرَّاحِ الْهِدَايَةِ صَرَّحَ بِمَا ادَّعَاهُ بَلْ عِبَارَتُهُمْ مُفِيدَةٌ خِلَافَهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ مَلَكَ نِصَابًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ النُّقُودِ أَوْ السَّوَائِمِ أَوْ الْعُرُوضِ اهـ.
فَأَوْهَمَ مَا ذَكَرَهُ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْعِنَايَةِ سَوَاءٌ كَانَ إلَخْ مُفِيدٌ تَفْسِيرَ النِّصَابِ بِالْقِيمَةِ مُطْلَقًا لِمَا أَنَّ الْعُرُوضَ لَيْسَ نِصَابُهَا إلَّا مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِقْدَارُ النِّصَابِ فِي التَّبْيِينِ وَغَيْرِهِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ فِي الْكَافِي بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ سَأَلَ، وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ فَقَدْ سَأَلَ النَّاسَ إلْحَافًا قِيلَ: وَمَا الَّذِي يُغْنِيهِ قَالَ: مِائَتَا دِرْهَمٍ، أَوْ عَدْلُهَا» اهـ.
وَنَحْوُهُ فِي الْمُحِيطِ فَقَدْ شَمِلَ الْحَدِيثُ اعْتِبَارَ السَّائِمَةِ بِالْقِيمَةِ لِإِطْلَاقِهَا وَقَدْ نَصَّ عَلَى اعْتِبَارِ قِيمَةِ السَّوَائِمِ فِي عِدَّةِ كُتُبٍ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي الْأَشْبَاهِ وَالسِّرَاجِ والوهبانية وَشَرْحِهَا لِلْمُصَنِّفِ وَلِابْنِ الشِّحْنَةِ وَالذَّخَائِرِ الْأَشْرَفِيَّةِ، وَفِي الْجَوْهَرَةِ قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ إذَا كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ قِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ تَحِلُّ لَهُ الزَّكَاةُ وَتَجِبُ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا أَظْهَرَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ نِصَابُ النَّقْدِ مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ بَلَغَ نِصَابًا أَيْ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ اهـ.
مَا نَقَلَهُ عَنْ الْمَرْغِينَانِيِّ اهـ مَا فِي الشرنبلالية.
وَوَفَّقَ بَعْضُ مُحَشِّي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ بِحَمْلِ مَا مَرَّ عَنْ الْمُحِيطِ وَالظَّهِيرِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي النِّصَابِ الْمُحَرَّمِ الْوَزْنُ أَوْ الْقِيمَةُ فَمَا فِي الْمُحِيطِ الثَّانِي، وَمَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ الْأَوَّلُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ اعْتِبَارَ الْوَزْنِ خَاصٌّ بِالْمَوْزُونِ لِتَأَتِّيهِ فِيهِ أَمَّا الْمَعْدُودُ كَالسَّائِمَةِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ بَدَلَ الْوَزْنِ فَمَا فِي الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ وَالْمِنَحِ مُرُورٌ عَلَى مَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَمَا فِي الشرنبلالية عَلَى مَا فِي الْمُحِيطِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ التَّنَافِي بَيْنَ كَلَامِ الْقَوْمِ اهـ مُلَخَّصًا قُلْت: هَذَا مُمْكِنٌ، وَلَكِنْ لَوْ وَرَدَ فِي كَلَامِهِمْ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِيمَا قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ لَحَصَلَ التَّنَافِي أَمَّا مَعَ عَدَمِهِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ الشُّرُنْبُلَالِيُّ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِعَدَمِ التَّنَافِي تَأَمَّلْ

(قَوْلُهُ: خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَخِيرِ) أَيْ الزَّمَنِ الَّذِي لَيْسَ فِي عِيَالِ مَوْلَاهُ، وَقَوْلُهُ: وَاخْتَارَهُ فِي الذَّخِيرَةِ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ فِي الذَّخِيرَةِ حَكَاهُ بِقَوْلِهِ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِهِ مَا يَقْتَضِي اخْتِيَارَهُ وَمُجَرَّدُ الْحِكَايَةِ لِقَوْلٍ لَا يُفِيدُ اخْتِيَارَهُ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: وَقَدْ يُقَالُ إلَخْ) قَالَ الْعَلَّامَةُ الْمَقْدِسِيَّ أَقُولُ: إنْ أُرِيدَ أَنَّ الْمَوْلَى لَيْسَ بِمَصْرِفٍ لِغِنَاهُ فَابْنُ السَّبِيلِ غَنِيٌّ، وَلَا صَدَقَةَ لِغَنِيٍّ أَوْ يُقَالُ الْعَبْدُ الْمَذْكُورُ لَا يَنْزِلُ حَالُهُ عَنْ مَأْذُونِ مَدْيُونٍ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى كَسْبَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَجَازَ الصَّرْفُ إلَيْهِ فَلْيَجُزْ هَا هُنَا لِلضَّرُورَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ أَبُو يُوسُفَ أَصْلَهُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ اهـ.

الصفحة 264