كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 2)

النَّحْرِ وَلُزُومِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ كَوْنَ الْمَعْصِيَةِ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ حَتَّى لَا يَنْفَكَّ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ عَنْهَا وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ لَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ لِلْكَفَّارَةِ حَيْثُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ وَلِهَذَا قَالُوا لَوْ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي كَقَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا كَانَ يَمِينًا وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فَلَوْ فَعَلَ نَفْسَ الْمَنْذُورِ عَصَى وَانْحَلَّ النَّذْرُ كَالْحَلِفِ بِالْمَعْصِيَةِ يَنْعَقِدُ لِلْكَفَّارَةِ فَلَوْ فَعَلَ الْمَعْصِيَةَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا سَقَطَتْ وَأَثِمَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ نَذْرًا بِطَاعَةٍ كَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ فَإِنَّ الْيَمِينَ لَا تَلْزَمُ بِنَفْسِ النَّذْرِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِهِ يُفْتَى وَصَرَّحَ فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّ النَّذْرَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ فِي الْأَصْلِ إلَّا إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ إحْدَاهَا أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ مِنْ جِنْسِهِ شَرْعًا وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لَا وَسِيلَةً وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي ثَانِي الْحَالِ فَلِذَا لَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَفْرُوضَاتِ لِانْعِدَامِ الشَّرْطِ الثَّالِثِ. اهـ.
فَعَلَى هَذَا فَالشَّرَائِطُ أَرْبَعَةٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ النَّذْرَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَنَحْوِهَا خَرَجَ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ إذْ قَوْلُهُمْ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ يُفِيدُ أَنَّ الْمَنْذُورَ غَيْرَ الْوَاجِبِ مِنْ جِنْسِهِ وَهَاهُنَا عَيْنُهُ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ رَابِعٍ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَحِيلَ الْكَوْنِ فَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ أَمْسِ أَوْ اعْتِكَافَ شَهْرٍ مَضَى لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ كَمَا فِي الْوَلْوَالِجيَّةِ وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ إلَّا إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ غَيْرِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ يَجِبُ كَالنَّذْرِ بِالْحَجِّ مَاشِيًا وَالِاعْتِكَافِ وَإِعْتَاقِ الرَّقَبَةِ مَعَ أَنَّ الْحَجَّ بِصِفَةِ الْمَشْيِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَكَذَا الِاعْتِكَافُ وَكَذَا نَفْسُ الْإِعْتَاقِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةِ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْإِعْتَاقِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ بِالْحَجِّ مَاشِيًا مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا لَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِمْ الرَّاحِلَةُ بَلْ يَجِبُ الْمَشْيُ عَلَى كُلِّ مَنْ قَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى الْمَشْيِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّبْيِينِ فِي آخِرِ الْحَجِّ وَأَمَّا الِاعْتِكَافُ وَهُوَ اللُّبْثُ فِي مَكَان مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فِي الصَّلَاةِ وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا وَهُوَ الْإِعْتَاقُ فِي الْكَفَّارَةِ وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَلَيْسَ بِمُرَادٍ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ نَوَى يَمِينًا كَفَّرَ أَيْضًا) أَيْ مَعَ الْقَضَاءِ تَجِبُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ إذَا أَفْطَرَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ سِتَّةٍ إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى النَّذْرَ لَا غَيْرُ أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا يَكُونُ نَذْرًا؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِصِيغَتِهِ كَيْفَ وَقَدْ قَرَّرَهُ بِعَزِيمَتِهِ وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ وَقَدْ عَيَّنَهُ وَنَفَى غَيْرَهُ وَإِنْ نَوَاهُمَا يَكُونُ نَذْرًا وَيَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ نَذْرًا وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ يَمِينًا. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ حَقِيقَةٌ وَالْيَمِينَ مَجَازٌ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ الْأَوَّلُ عَلَى النِّيَّةِ وَيَتَوَقَّفَ الثَّانِي؛ فَلَا يَنْتَظِمُهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ الْمَجَازُ يَتَعَيَّنُ بِنِيَّتِهِ وَعِنْدَ نِيَّتِهِمَا تَتَرَجَّحُ الْحَقِيقَةُ. وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا يَقْضِيَانِ الْوُجُوبَ إلَّا أَنَّ النَّذْرَ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ وَالْيَمِينَ لِغَيْرِهِ فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ كَمَا جَمَعْنَا بَيْنَ جِهَتَيْ التَّبَرُّعِ وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ كَذَا فِي الْهِدَايَةِ وَتَعَقَّبَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِلُزُومِ التَّنَافِي مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ الْوُجُوبَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْيَمِينُ وُجُوبٌ يَلْزَمُ بِتَرْكِ مُتَعَلَّقِهِ الْكَفَّارَةُ وَالْوُجُوبُ الَّذِي هُوَ مُوجَبُ النَّذْرِ لَيْسَ يَلْزَمُ بِتَرْكِ مُتَعَلَّقِهِ ذَلِكَ، وَتَنَافِي اللَّوَازِمِ أَقَلُّ مَا يَقْتَضِي التَّغَايُرَ فَلَا بُدَّ أَنْ لَا يُرَادَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ أُرِيدَ بِلَفْظِ الْيَمِينِ لِلَّهِ وَأُرِيدَ النَّذْرُ بِعَلَيَّ أَنْ أَصُومَ كَذَا وَجَوَابُ الْقَسَمِ حِينَئِذٍ مَحْذُوفٌ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْمَنْذُورِ أَيْ كَأَنَّهُ قَالَ لِلَّهِ لَأَصُومَنَّ وَعَلَيَّ أَنْ أَصُومَ وَعَلَى هَذَا لَا يُرَادَانِ بِنَحْوِ عَلَيَّ أَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فِي الصَّلَاةِ) قَالَ فِي الْمِعْرَاجِ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ قُلْنَا بَلْ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ اللُّبْثُ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ الْوُقُوفُ أَوْ النَّذْرُ بِالْمَشْيِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْوَاجِبِ وَهَذَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ يَشْتَمِلُ عَلَى الصَّوْمِ وَمِنْ جِنْسِ الصَّوْمِ وَاجِبٌ فَيَكُونُ النَّذْرُ بِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى اللُّبْثِ وَالصَّوْمِ وَمِنْ جِنْسِ الصَّوْمِ وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ اللُّبْثِ وَاجِبٌ فَيَصِحُّ النَّذْرُ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ جَامِعِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ النَّذْرُ بِالِاعْتِكَافِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسِهِ إيجَابٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ إنَّمَا شُرِعَ لِدَوَامِ الصَّلَاةِ؛ وَلِذَلِكَ صَارَ قُرْبَةً فَصَارَ الْتِزَامُهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ.

(قَوْلُهُ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ) أَيْ مَسْأَلَةُ النَّذْرِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِصِيغَةِ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ غَيْرِهِ (قَوْلُهُ: وَقَدْ عَيَّنَهُ إلَخْ) أَيْ فَيَجِبُ بِالْفِطْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ لَا الْقَضَاءُ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ وَالْكَفَّارَةُ مُوجِبُ الْحِنْثِ فِي هَذَا الْمَقَامِ (قَوْلُهُ: نَذْرًا وَيَمِينًا إلَخْ) أَيْ فَيَجِبُ الْقَضَاءُ تَحْصِيلًا لِمَا وَجَبَ بِالِالْتِزَامِ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ إنْ أَفْطَرَ لِلْحِنْثِ بِتَرْكِ الصِّيَامِ اهـ.
دُرٌّ مُنْتَقًى (قَوْلُهُ: إنَّهُ أُرِيدَ بِلَفْظِ الْيَمِينِ لِلَّهِ) فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَالْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ أُرِيدَ الْيَمِينُ بِلَفْظِ لِلَّهِ.

الصفحة 317