كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 2)

فِيهِ وَاجِبٌ حَتَّى لَوْ سَعَى رَاكِبًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ دَمٌ وَلَمْ يَذْكُرْ أَيَّ بَابٍ يَخْرُجُ مِنْهُ إلَى الصَّفَا؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ الْمُسَمَّى الْآنَ بِبَابِ الصَّفَا؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَبْوَابِ إلَيْهِ فَكَانَ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا فَلَمْ يَكُنْ سُنَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ جَاعِلًا بَاطِنَهُمَا إلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الصَّفَّا فِي اللُّغَةِ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ وَهُوَ وَالْمَرْوَةُ جَبَلَانِ مَعْرُوفَانِ بِمَكَّةَ، وَكَانَ الصَّفَا مُذَكَّرًا؛ لِأَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَفَ عَلَيْهِ فَسُمِّيَ بِهِ وَوَقَفَتْ حَوَّاءُ عَلَى الْمَرْوَةِ فَسُمِّيَتْ بِاسْمِ الْمَرْأَةِ فَأُنِّثَ لِذَلِكَ كَذَا ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَفِي التُّحْفَةِ الْأَفْضَلُ لِلْحَاجِّ أَنْ لَا يَسْعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ لَا يَلِيقُ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلسُّنَّةِ بَلْ يُؤَخِّرُهُ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ، وَاللَّائِقُ لِلْوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْفَرْضِ.

(قَوْلُهُ ثُمَّ اهْبِطْ نَحْوَ الْمَرْوَةِ سَاعِيًا بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ وَافْعَلْ عَلَيْهَا فِعْلَك عَلَى الصَّفَا) أَيْ عَلَى الْمَرْوَةِ مِنْ الصُّعُودِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ، وَالْكُلُّ سُنَّةٌ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْهَرْوَلَةَ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُمَا شَيْئَانِ عَلَى شَكْلِ الْمِيلَيْنِ مَنْحُوتَانِ مِنْ نَفْسِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَّا أَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنْهُ وَهُمَا عَلَامَتَانِ لِمَوْضِعِ الْهَرْوَلَةِ فِي مَمَرِّ بَطْنِ الْوَادِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ.
(قَوْلُهُ وَطُفْ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ تَبْدَأُ بِالصَّفَا وَتَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ) كَمَا صَحَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، وَقَوْلُهُ تَبْدَأُ بِالصَّفَا بَيَانٌ لِلْوَاجِبِ حَتَّى لَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ لَا يُعْتَدُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــQهَذَا الِاسْتِلَامَ لِافْتِتَاحِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِنْ لَمْ يُرِدْ السَّعْيَ بَعْدَهُ لَمْ يُعِدْ عَلَيْهِ اهـ.

(قَوْلُهُ فَلَمْ يَكُنْ سُنَّةً) مَثَّلَهُ فِي الْهِدَايَةِ قَالَ فِي النَّهْرِ وَالْمَذْكُورُ فِي السِّرَاجِ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ اهـ.
وَفِي حَاشِيَةِ نُوحٍ أَفَنْدِي قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ سُنَّةٌ فَقَوْلُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ لَا أَنَّهُ سُنَّةٌ مُخَالِفٌ لَهُ لَكِنَّهُ مُوَافِقٌ لِكَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْبَدَائِعِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا، وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ سُنَّةً فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ سُنَّةً بَلْ مُسْتَحَبٌّ، فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْ غَيْرِهِ بِدُونِ الْإِسَاءَةِ. (قَوْلُهُ وَفِي التُّحْفَةِ الْأَفْضَلُ لِلْحَاجِّ) أَيْ الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ وَالْمُتَمَتِّعُ بِخِلَافِ الْقَارِنِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي اللُّبَابِ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ خِلَافًا ثُمَّ قَالَ: وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِ الْقَارِنِ أَمَّا الْقَارِنُ فَالْأَفْضَلُ لَهُ تَقْدِيمُ السَّعْيِ أَوْ يُسَنُّ اهـ.
وَفِي حَاشِيَةِ الْمَدَنِيِّ اعْلَمْ أَنَّ السَّعْيَ الْوَاجِبَ فِي الْحَجِّ يَدْخُلُ وَقْتُهُ عَقِبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَيَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ تَبَعٌ لِلطَّوَافِ، وَالشَّيْءُ إنَّمَا يَتْبَعُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ رُكْنٌ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوُقُوفِ وَإِيقَاعُهُ عَقِبَ طَوَافِ الْقُدُومِ لِكَثْرَةِ أَفْعَالِ الْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ حَتَّى لِمَنْ لَا عَلَيْهِ طَوَافُ الْقُدُومِ فِي الْأَصَحِّ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ الْأَفْضَلُ تَأْخِيرُهُ إلَى وَقْتِهِ أَمْ تَقْدِيمُهُ وَعَلَى الثَّانِي هَلْ هُوَ عَامٌّ لِأَهْلِ مَكَّة وَغَيْرِهِمْ أَمْ خَاصٌّ بِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ عَلَيْهِ طَوَافُ الْقُدُومِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ جَوَازَ تَقْدِيمِ السَّعْيِ مِمَّنْ عَلَيْهِ طَوَافُ الْقُدُومِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَفْضَلِيَّتُهُ فَفِيهَا خِلَافٌ، وَأَمَّا جَوَازُهُ لِمَنْ أَهَلَّ مِنْ مَكَّةَ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ طَوَافُ قُدُومٍ اخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمَشَايِخِ كَالْكَرْخِيِّ وَالْقُدُورِيِّ وَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَالْكَافِي وَالنِّهَايَةِ وَالْمَجْمَعِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَمَّا الْأَفْضَلِيَّةُ فَصَحَّحَهَا الْكَرْمَانِيُّ وَذَهَبَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ إلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّقْدِيمِ لِمَنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْقَارِنِ، وَأَمَّا هُوَ فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَفْضَلِيَّةِ تَقْدِيمِ السَّعْيِ فَضْلًا عَنْ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا ذَكَرُوا لَهُ إلَّا التَّقْدِيمَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ بَلْ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى اسْتِنَانِ تَقْدِيمِ السَّعْيِ لَهُ كَذَا فِي الْمُرْشِدِيِّ وَغَيْرِهِ اهـ.

(قَوْلُ الْمُصَنِّفِ سَاعِيًا بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ) يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ السَّعْيُ فَوْقَ الرَّمَلِ دُونَ الْعَدْوِ أَيْ الْجَرْيِ الشَّدِيدِ وَهُوَ سُنَّةٌ فِي كُلِّ شَوْطٍ بِخِلَافِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ خِلَافًا لِمَنْ خَصَّهُ أَيْضًا بِالثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ وَلَا اضْطِبَاعَ فِي السَّعْيِ مُطْلَقًا عِنْدَنَا، وَلَوْ تَرَكَ السَّعْيَ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ أَوْ هَرْوَلَ فِي جَمِيعِ السَّعْيِ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيُلَبِّي فِي السَّعْيِ الْحَاجُّ أَيْ إنْ وَقَعَ سَعْيُهُ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ لَا الْمُعْتَمِرُ وَلَوْ كَانَ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ تَلْبِيَتَهُ تَنْقَطِعُ بِالشُّرُوعِ فِي طَوَافِهِ وَلَا الْحَاجُّ إذَا سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لِانْقِطَاعِ تَلْبِيَتِهِ بِأَوَّلِ رَمْيِ جَمْرَةٍ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ السَّعْيِ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ صَبَرَ حَتَّى يَجِدَ فُرْجَةً وَإِلَّا تَشَبَّهَ بِالسَّاعِي فِي حَرَكَتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ لِعُذْرٍ حَرَّكَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ أَحَدًا لُبَابٌ وَشَرْحُهُ.
(قَوْلُهُ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ لَا يُعْتَدُّ بِالْأَوَّلِ) هَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالْمَرْوَةِ شَرْطٌ لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ قِيلَ إنَّهُ شَرْطٌ، وَقِيلَ وَاجِبٌ وَقِيلَ سُنَّةٌ وَمَشَى فِي اللُّبَابِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَقَالَ شَارِحُهُ الْأَعْدَلُ الْمُخْتَارُ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ الْوُجُوبُ فَيَصِحُّ أَدَاؤُهُ لَكِنْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ دُونَ عِقَابِ تَرْكِ الْفَرْضِ وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ وَتَمَامُ تَحْقِيقِهِ هُنَاكَ (تَنْبِيهٌ)
عَدَّ فِي اللُّبَابِ تَبَعًا لِلْبَدَائِعِ مِنْ شَرَائِطِ السَّعْيِ كَوْنَهُ بَعْدَ طَوَافٍ كَائِنٍ عَلَى طَهَارَةٍ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا عَنْهُمَا وَقْتَ الطَّوَافِ، لَمْ يَجُزْ سَعْيُهُ رَأْسًا وَاسْتَشْكَلَهُ شَارِحُهُ بِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الطَّوَافِ فَكَيْفَ تَكُونُ شَرْطًا فِيهِ بَلْ الشَّرْطُ وُقُوعُهُ عَقِيبَ طَوَافٍ صَحِيحٍ لَا بَعْدَ طَوَافٍ كَامِلٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبَاتِهِ وَتَمَامِهِ فِيهِ فَرَاجِعْهُ

الصفحة 358