كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 2)

وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ لَكِنْ إطْلَاقُ مَسْأَلَةِ التَّجْنِيسِ يَقْتَضِي إلَى آخِرِهِ غَفْلَةٌ عَمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّجْنِيسِ فِي بَابِ الْوِتْرِ مِنْهُ وَلَفْظُهُ إذَا اقْتَدَى فِي الْوِتْرِ بِمَنْ يَرَاهُ سُنَّةً وَهُوَ يَرَاهُ وَاجِبًا يَنْظُرُ إنْ كَانَ نَوَى الْوِتْرَ وَهُوَ يَرَاهُ سُنَّةً أَوْ تَطَوُّعًا جَازَ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ خَلْفَ آخَرَ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الرُّكُوعَ سُنَّةٌ أَوْ تَطَوُّعٌ وَإِنْ كَانَ افْتَتَحَ الْوِتْرَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ أَوْ بِنِيَّةِ السُّنِّيَّةِ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرُّسْتُغْفَنِيُّ هَذَا وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَا يَنْوِي أَنَّهُ وَاجِبٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ الْوُجُوبِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ مَنْعُهُ مِنْ أَنْ يَنْوِيَ وُجُوبَهُ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَنَفِيًّا أَوْ غَيْرَهُ فَإِنْ كَانَ حَنَفِيًّا فَيَنْبَغِي أَنَّهُ يَنْوِيهِ لِيُطَابِقَ اعْتِقَادَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَلَا تَضُرُّهُ تِلْكَ النِّيَّةُ فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ انْتِفَاءَ الْوَصْفِ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْأَصْلِ فَيَبْقَى الْأَصْلُ وَهُوَ صَلَاةُ الْوِتْرِ هُنَا وَقَدْ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ.

(قَوْلُهُ وَقَنَتَ فِي ثَالِثَتِهِ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَبَدًا) لِمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ» وَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ» فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَهْرًا مِنْهُ فَقَطْ بِدَلِيلِ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ سَأَلْت أَنَسًا عَنْ الْقُنُوتِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ نَعَمْ قُلْت أَكَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ قَالَ قَبْلَهُ قُلْت فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي عَنْك أَنَّك قُلْت بَعْدَهُ قَالَ كَذَبَ إنَّمَا «قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا» وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى الْقُنُوتِ فِي جَمِيعِ السُّنَّةِ وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ الشَّهْرِ يَعْنِي رَمَضَانَ وَلَا يَقْنُتُ بِهِمْ إلَّا فِي النِّصْفِ الثَّانِي فَإِذَا كَانَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ تَخَلَّفَ فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالنِّصْفِ الثَّانِي مِنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ الْقُنُوتَ فِيهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ طُولَ الْقِيَامِ فَإِنَّهُ يُقَالُ عَلَيْهِ كَمَا يُقَالُ عَلَى الدُّعَاءِ وَتَرَجَّحَ الْأَوَّلُ لِتَخْصِيصِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ بِزِيَادَةِ الِاجْتِهَادِ فَلَيْسَ هُوَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ وَالْكَلَامُ فِي الْقُنُوتِ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ فِي صِفَتِهِ وَمَحَلِّ أَدَائِهِ وَمِقْدَارِهِ وَدُعَائِهِ وَحُكْمِهِ إذَا فَاتَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا سُنَّةٌ كَالْوِتْرِ وَيَشْهَدُ لِلْوُجُوبِ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْحَسَنِ حِينَ عَلَّمَهُ الْقُنُوتَ اجْعَلْ هَذَا فِي وِتْرِك» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ لَكِنَّهُ تَعَقَّبَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ وَمِنْهُمْ مَنْ حَاوَلَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمُوَاظَبَةِ الْمُفَادَةِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَهُوَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ وَلَفْظُهُ إذَا اقْتَدَى إلَخْ) هَذَا كَمَا يَدْفَعُ قَوْلَ الْفَتْحِ يَقْتَضِي إلَخْ يَدْفَعُ قَوْلَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِنِيَّتِهِ إيَّاهُ إنَّمَا نَوَى النَّفَلَ إلَخْ لِأَنَّهُ يُقَالُ عَلَيْهِ أَنَّهُ نَوَى صَلَاةً مَخْصُوصَةً عَيَّنَهَا بِالْوَتْرِيَّةِ وَهَذَا كَافٍ فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ عِبَارَةُ التَّجْنِيسِ هَذِهِ وَقَدْ دَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ قَوْلَ التَّجْنِيسِ أَوَّلًا أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ مَعْنَاهُ إذَا نَوَى صَرِيحَ النَّفْلِ كَالسُّنَّةِ أَوْ التَّطَوُّعِ فَالنِّيَّةُ بِعِنْوَانِ الْوِتْرِيَّةِ لَيْسَتْ نِيَّةَ النَّفْلِيَّةِ قَالَ فِي النَّهْرِ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ لِحَاصِلِ مَا قُلْنَا وَإِذَا تَحَقَّقَتْ هَذَا ظَهَرَ لَك أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْبَحْرِ مَا فِي التَّجْنِيسِ أَوَّلًا فِي الْفَرْضِ الْقَطْعِيِّ وَالْوِتْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ إذْ مُفَادُهُ أَنَّ الْوِتْرَ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ وَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ فَتَدَبَّرْهُ اهـ.
وَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَوَابٍ بَلْ مُفَادُهُ جَوَازُهُ بِعِنْوَانِ الْوِتْرِيَّةِ فَتَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي إلَخْ) أَقُولُ: هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ كَلَامِهِمْ بَلْ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى نِيَّةِ الْوِتْرِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ وُجُوبٍ وَعِبَارَةُ الْمُحِيطِ وَالْبَدَائِعِ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَالُوا كَذَلِكَ لِلِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهِ وَسُنِّيَّتِهِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ قَطْعًا وَلَا بِسُنَّةٍ قَطْعًا فَإِذَا أَطْلَقَهُ عَنْ الْوُجُوبِ يَكُونُ مُوَافِقًا لِكُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا كَانَ سُنَّةً وَإِنْ كَانَ لَا تَضُرُّهُ نِيَّةُ الْوُجُوبِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى فَكَانَ الْأَوْلَى عَدَمُ تَعْيِينِ الْوُجُوبِ سِيَّمَا وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ فَرْضٌ كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ كَمَا مَرَّ قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْعَارِضَةِ مَالَ سَحْنُونٌ وَأَصْبَغُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى وُجُوبِهِ يُرِيدُ بِهِ الْفَرْضَ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَيْ فَرْضٌ وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ الْفَرْضُ وَاخْتَارَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ السَّخَاوِيُّ الْمُقْرِي أَنَّهُ فَرْضٌ وَعَمَلٌ فِيهِ جَزَاءٌ وَسَاقَ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ ثُمَّ قَالَ فَلَا يَرْتَابُ ذُو فَهْمٍ بَعْدَ هَذَا أَنَّهَا أُلْحِقَتْ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَفِي الْمُغْنِي عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَنْ تَرَكَ الْوِتْرَ عَمْدًا فَهُوَ رَجُلُ سُوءٍ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ اهـ مَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ فَلَا جَرَمَ قَالَ الْمَشَايِخُ بِنِيَّةِ الْوِتْرِ فَقَطْ لِيَخْرُجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ فَتَأَمَّلْ مُنْصِفًا.

(قَوْلُهُ لَكِنَّهُ تَعَقَّبَهُ إلَخْ) حَيْثُ قَالَ وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ غَرِيبٌ وَالْمَعْرُوفُ مَا أَخَّرُوهُ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ وَفِي لَفْظٍ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْت» إلَخْ ثُمَّ قَالَ فِي الْفَتْحِ وَهُوَ أَيْ إثْبَاتُ الْوُجُوبِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ثُبُوتِ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِيهِ أَعْنِي قَوْلَهُ اجْعَلْ هَذَا فِي وِتْرِك وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ لِي اهـ.

الصفحة 43