كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 2)

وَالْأَفْضَلُ الْأَرْبَعُ وَإِنَّمَا لَمْ تَكُنْ الرَّكْعَتَانِ سُنَّةً رَاتِبَةً لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ وَيَكُونُ الْأَرْبَعُ مُسْتَحَبًّا لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِلْعَصْرِ سُنَّةً رَاتِبَةً أَصْلًا كَمَا فِي الْبَدَائِعِ فَلِذَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ سُنَّةٌ وَأَمَّا الْأَرْبَعُ قَبْلَ الْعِشَاءِ فَذَكَرُوا فِي بَيَانِهِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ التَّطَوُّعَ بِهَا مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ فَكَانَ حَسَنًا لِأَنَّ الْعِشَاءَ نَظِيرُ الظُّهْرِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا كَذَا فِي الْبَدَائِعِ وَلَمْ يَنْقُلُوا حَدِيثًا فِيهِ بِخُصُوصِهِ لِاسْتِحْبَابِهِ وَأَمَّا الْأَرْبَعُ بَعْدَهَا فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ «مَا صَلَّى الْعِشَاءَ قَطُّ فَدَخَلَ بَيْتِي إلَّا صَلَّى فِيهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ» قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ كَوْنَ الْأَرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ سُنَّةً لِنَقْلِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا فِي أَبِي دَاوُد فَإِنَّهُ نَصَّ فِي مُوَاظَبَتِهِ عَلَى الْأَرْبَعِ دُونَ السِّتِّ لِلْمُتَأَمِّلِ اهـ.
وَقَدْ يُقَالُ إنَّمَا لَمْ تَكُنْ الْأَرْبَعُ سُنَّةً لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «ابْنِ عُمَرَ قَالَ صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ» وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَمَا يَطْلُعُ الْفَجْرَ» اهـ فَهُوَ مُعَارِضٌ لِنَقْلِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ فَلِذَا لَمْ تَكُنْ سُنَّةً وَأَمَّا السِّتَّةُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَلِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ كُتِبَ مِنْ الْأَوَّابِينَ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] »
وَذَكَرَ فِي التَّجْنِيسِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ السِّتَّ بِثَلَاثِ تَسْلِيمَاتٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ الْأَرْبَعَ بَعْدَ الظُّهْرِ وَصَرَّحَ بِاسْتِحْبَابِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ وَحَكَى فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ عَصْرِهِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَى هَلْ السُّنَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ مَحْسُوبَةٌ مِنْ الْمُسْتَحَبِّ فِي الْأَرْبَعِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ وَفِي السِّتِّ بَعْدَ الْمَغْرِبِ أَوْ لَا الثَّانِيَةُ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَوَّلِ هَلْ يُؤَدِّي الْكُلَّ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ فِيهِمَا وَأَطَالَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ) تَعْلِيلٌ لِلْمَنْفِيِّ وَقَوْلُهُ وَيَكُونُ مُسْتَأْنَفٌ وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى تَكُنْ الْمَنْفِيِّ بِلَمْ وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ تَعْلِيلَ لِلنَّفْيِ أَعْنِي قَوْلَهُ لَمْ تَكُنْ وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَزَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ رَكْعَتَيْنِ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ سُنَّةً لِأَنَّهُ ثَابِتٌ مِنْهُمَا بِيَقِينٍ وَيَكُونُ الْأَرْبَعُ مُسْتَحَبًّا وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِلْعَصْرِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ لَا رَكْعَتَيْنِ وَلَا أَرْبَعًا فَيَقْتَضِي عَدَمَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ أَيْضًا وَلَا بُدَّ مِنْ الْمُوَاظَبَةِ حَتَّى تَثْبُتَ السُّنَّةُ هَذَا وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَوْلَى فِي الْأَرْبَعِ الْفَصْلُ لَكِنْ ذَكَرَ الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ عَنْ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ اخْتَارَ أَنْ لَا يَفْصِلَ فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الْعَصْرِ وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ مَعْنَى أَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِالتَّسْلِيمِ يَعْنِي التَّشَهُّدَ اهـ.
وَلَعَلَّهُ جَوَابُ عُلَمَائِنَا أَيْضًا (قَوْلُهُ وَلَمْ يَنْقُلُوا حَدِيثًا فِيهِ بِخُصُوصِهِ) نُقِلَ فِي الِاخْتِيَارِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعِشَاءِ أَرْبَعًا ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا أَرْبَعًا ثُمَّ يَضْطَجِعُ» اهـ.
وَنَقَلَهُ عَنْهُ أَيْضًا فِي إمْدَادِ الْفَتَّاحِ ثُمَّ قَالَ وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ إنْ تَطَوَّعَ قَبْلَ الْعَصْرِ بِأَرْبَعٍ وَقَبْلَ الْعِشَاءِ بِأَرْبَعٍ فَحَسَنٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا (قَوْلُهُ فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي مُوَاظَبَتِهِ عَلَى الْأَرْبَعِ إلَخْ) لِأَنَّ مُفَادُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَارَةٌ يُصَلِّي سِتًّا وَتَارَةً يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَرْبَعِ وَعَلَى كُلٍّ فَالْأَرْبَعُ مُوَاظِبٌ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا بَعْضُ السِّتَّةِ (قَوْلُهُ وَقَدْ يُقَالُ إلَخْ) أَيْ قَدْ يُقَالُ فِي دَفْعِ الْمُوَاظَبَةِ.
أَقُولُ: وَلِي هُنَا نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيث ابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا الرَّاتِبَةُ أَوْ غَيْرَ الرَّاتِبَةِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يَرِدُ مِثْلُ مَا أَوْرَدَهُ فِي الَّتِي قَبْلَ الظُّهْرِ وَاَلَّتِي بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ بِهِ فِي الْفَتْحِ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ» بِقَوْلِهِ أَمَّا بِأَنَّ الْأَرْبَعَ كَانَ يُصَلِّيهَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي بَيْتِهِ وَمَا رَآهُ ابْنُ عُمَرَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ أَوْ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَرَى تِلْكَ وِرْدًا آخَرَ سَبَبُهُ الزَّوَالُ وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ اهـ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ» ثُمَّ قَالَ وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِعَيْنِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الْجُمُعَةِ كَالظُّهْرِ لِعَدَمِ الْفَصْلِ فِيهِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ وَلَمْ يَجِبْ عَنْ الَّتِي بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَلَا الَّتِي بَعْدَ الْعِشَاءِ فَيَقْتَضِي أَنَّ الْأَرْبَعَ بَعْدَ الْجُمُعَةِ غَيْرُ رَاتِبَةٍ وَأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ هِيَ الرَّاتِبَةُ وَبِهِ يُتِمُّ مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْ الدَّفْعِ لَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ عَنْ الَّتِي بَعْدَ الْجُمُعَةِ نَعَمْ هُوَ ظَاهِرٌ عَلَى رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَكَرَهَا فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهَا رَكْعَتَانِ فَلْيُتَأَمَّلْ وَقَدْ يُقَالُ أَنَّهَا الرَّكْعَتَانِ الزَّائِدَتَانِ عَلَى الْأَرْبَعِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ كَمَا مَرَّ
(قَوْلُهُ وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ فِيهِمَا) أَيْ اخْتَارَ مَا تَضَمَّنَهُ التَّرْدِيدُ الْأَوَّلُ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرُوهُ فِي صَلَاةِ السِّتِّ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَإِنَّ مُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ الْأَوْلَى فِيهَا أَنْ تَكُونَ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةً وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الرَّاتِبَةَ تُحْتَسَبُ مِنْهَا وَالتَّصْرِيحُ بِخِلَافِ كُلٍّ ثَابِتٌ قَالَ الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ وَفِي الْمِفْتَاحِ

الصفحة 54