كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 3)

الْإِيضَاحِ إذْ لَا شَكَّ فِي وُقُوعِ الْأَوَّلِ مُعْتَدًّا بِهِ حَتَّى حَلَّ بِهِ النِّسَاءُ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِمَا فِي الْأَصْلِ لَوْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا إنْ أَعَادَهُ فِي شَوَّالٍ أَوْ لَمْ يُعِدْهُ، وَقَوَّاهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ. وَإِنَّمَا وَجَبَ الدَّمُ لِتَرْكِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْإِعَادَةُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَإِذَا مَضَتْ تَرَكَ وَاجِبًا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخُلْفَ لَفْظِيٌّ لَا ثَمَرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ وَاجِبٌ اتِّفَاقًا، وَإِنْ اخْتَلَفَ التَّخْرِيجُ.

(قَوْلُهُ: وَصَدَقَةٌ لَوْ مُحْدِثًا لِلْقُدُومِ) أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ لَوْ طَافَ لِلْقُدُومِ مُحْدِثًا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَهُ نَقْصٌ بِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فَيَنْجَبِرُ بِالصَّدَقَةِ إظْهَارًا لِدُنُوِّ رُتْبَتِهِ عَنْ الْوَاجِبِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ.
وَأَشَارَ إلَى أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ هُوَ تَطَوُّعٌ فَهُوَ كَذَلِكَ، وَقَيَّدَ بِالْحَدَثِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طَافَ لِلْقُدُومِ جُنُبًا لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ وَدَمٌ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ فِيهِ مُتَغَلِّظٌ فَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ احْتِيَاطًا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ طَوَافَ التَّحِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ، وَإِنْ أَعَادَ فَهُوَ أَفْضَلُ كَذَا فِي الْمُحِيطِ وَبِهَذَا ظَهَرَ بُطْلَانُ مَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ مَعْزِيًّا إلَى الْإِسْبِيجَابِيِّ مِنْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَوْ طَافَ لِلِقَاءٍ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ؛ وَلِأَنَّ طَوَافَ التَّطَوُّعِ إذَا شَرَعَ فِيهِ صَارَ وَاجِبًا بِالشُّرُوعِ ثُمَّ يَدْخُلُهُ النَّقْصُ بِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فِيهِ.
غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ وُجُوبَهُ لَيْسَ بِإِيجَابِهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً فَأَظْهَرْنَا التَّفَاوُتَ فِي الْحَطِّ مِنْ الدَّمِ إلَى الصَّدَقَةِ فِيمَا إذَا طَافَهُ مُحْدِثًا، وَمِنْ الْبَدَنَةِ إلَى الشَّاةِ فِيمَا إذَا طَافَهُ جُنُبًا، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ يَقْتَضِي وُجُوبَ الشَّاةِ فِيمَا إذَا طَافَ لِلتَّطَوُّعِ جُنُبًا. وَذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَنَّهُ إنْ طَافَ لِلْقُدُومِ مُحْدِثًا وَسَعَى وَرَمَلَ عَقِبَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَهُمَا عَقِيبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَإِنْ طَافَ لَهُ جُنُبًا وَسَعَى وَرَمَلَ عَقِبَهُ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ عَقِبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَيَرْمُلُ فِيهِ. (قَوْلُهُ: وَالصَّدْرِ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى الْقُدُومِ فَتَجِبُ صَدَقَةٌ لَوْ طَافَ مُحْدِثًا وَدَمٌ لَوْ جُنُبًا فَقَدْ سَوَّوْا بَيْنَ طَوَافِ الْقُدُومِ وَبَيْنَ طَوَافِ الصَّدْرِ مَعَ أَنَّ الْأَوَّلَ سُنَّةٌ وَالثَّانِيَ وَاجِبٌ، وَأَجَابَ عَنْهُ فِي الْهِدَايَةِ بِأَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ يَصِيرُ وَاجِبًا أَيْضًا بِالشُّرُوعِ، وَأَقَرَّهُ الشَّارِحُونَ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ مَا وَجَبَ ابْتِدَاءً قَبْلَ الشُّرُوعِ أَقْوَى مِمَّا وَجَبَ بِالشُّرُوعِ فَيَنْبَغِي عَدَمُ الْمُسَاوَاةِ قَيَّدَ بِتَرْكِ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا لَا يُوجِبُ شَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ سَعْيَ عُمْرَةٍ أَوْ حَجٍّ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تُؤَدَّى لَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تُؤَدَّى لَا فِي الْمَسْجِدِ فِي أَحْكَامِ الْمَنَاسِكِ فَالطَّهَارَةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ لَهَا كَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ عِبَادَةٌ تُؤَدَّى فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَتْ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةً فِيهِ كَذَا فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ.

(قَوْلُهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: حَتَّى حَلَّ بِهِ النِّسَاءُ) كَذَا صَرَّحَ بِهِ فِي اللُّبَابِ حَيْثُ قَالَ: وَيَقَعُ مُعْتَدًّا بِهِ فِي حَقِّ التَّحَلُّلِ لَكِنْ ذَكَرَ قَبْلَهُ فَرْعًا يُخَالِفُهُ حَيْثُ قَالَ: لَوْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا ثُمَّ جَامَعَ ثُمَّ أَعَادَهُ طَاهِرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَقَالَ: شَارِحُهُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى انْفِسَاخِ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي وَتَمَامُهُ فِيهِ (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا وَجَبَ الدَّمُ) أَيْ فِيمَا لَوْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَقَدْ طَافَهُ جُنُبًا (قَوْلُهُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخُلْفَ لَفْظِيٌّ) أَيْ الْخُلْفُ بَيْنَ الرَّازِيّ وَالْكَرْخِيِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ قَالَ فِي السِّرَاجِ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي إعَادَةِ السَّعْيِ فَعَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ لَا تَجِبُ إعَادَتُهُ، وَعَلَى قَوْلِ الرَّازِيّ تَجِبُ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ قَدْ انْفَسَخَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ. اهـ.
وَأَمَّا مَا فِي النَّهْرِ مِنْ أَنَّ مُقْتَضَى مَا قَالَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ اعْتِبَارُ الثَّانِي، وَعَلَيْهِ فَالْخِلَافُ مَعْنَوِيٌّ فَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي إيجَابِ الدَّمِ، وَعَدَمُهُ فِي فَصْلِ الْحَدَثِ. اهـ.
فَفِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَلَامَ الْمُؤَلِّفِ فِي فَصْلِ الْجِنَايَةِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِمَا عَلِمْت مِنْ تَأْيِيدِ نَقْلِهِ الِاتِّفَاقَ فِي الْحَدَثِ بِمَا نَقَلْنَاهُ أَوَّلًا عَنْ السِّرَاجِ، وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ دَعْوَاهُ أَنَّ مُقْتَضَى مَا قَالَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ اعْتِبَارَ الثَّانِي إنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنْ قَوْلِ الْإِسْبِيجَابِيِّ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ النَّهْرِ غَيْرُهُ فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ، وَإِلَّا أَيْ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى فَصْلِ الْجِنَايَةِ.

(قَوْلُهُ: وَبِهَذَا ظَهَرَ بُطْلَانُ مَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ مَا قَالَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ مُوَافِقٌ لِمَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الدِّرَايَةِ وَجَزَمَهُ فِي الْمُحِيطِ بِحُكْمٍ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَوْ طَافَ مَعَ النَّجَاسَةِ كَمَا مَرَّ مَعَ وُجُوبِ التَّحَامِي عَنْهَا عَلَى الطَّائِفِينَ نَعَمْ الْقَوْلُ بِضَعْفِهِ لَهُ وَجْهٌ. (قَوْلُهُ: وَأَجَابَ عَنْهُ فِي الْهِدَايَةِ إلَخْ) لَيْسَ ذَلِكَ فِي الْهِدَايَةِ، وَإِنَّمَا أَجَابَ فِيهَا عَمَّا قَدْ يُقَالُ يَنْبَغِي وُجُوبُ الدَّمِ فِي الصَّدْرِ لِوُجُوبِهِ بِأَنَّهُ دُونَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا قَالَ: وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَجِبُ شَاةٌ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ طَافَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ كَثِيرٌ ثُمَّ هُوَ دُونَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَيُكْتَفَى بِالشَّاةِ. اهـ.
نَعَمْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِشْكَالِ وَالْجَوَابِ ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ يُقَالُ إلَخْ فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ كَمَا فِي النَّهْرِ بِأَنَّ أَحَدَ الْمَحْظُورَيْنِ لَازِمٌ أَعْنِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَالْقُدُومِ فَالْتَزَمَ أَهْوَنَهُمَا، وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً وَالْوَاجِبِ بَعْدَ الشُّرُوعِ، قَالَ: وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ طَوَافَ الصَّدْرِ وَاجِبٌ بِفِعْلِ الْعَبْدِ أَيْضًا، وَهُوَ الصَّدْرُ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّهُ وَهْمٌ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ قَبْلَهُ كَمَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِخِلَافِ الْقُدُومِ.

الصفحة 21