كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 3)

أَوْ تَرَكَ أَقَلَّ طَوَافِ الرُّكْنِ، وَلَوْ تَرَكَ أَكْثَرَهُ بَقِيَ مُحْرِمًا) أَيْ يَجِبُ دَمٌ بِتَرْكِ شَوْطٍ أَوْ شَوْطَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَةً مِنْهُ فَإِنَّهُ مُحْرِمٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرُّكْنَ عِنْدَنَا أَكْثَرُ السَّبْعَةِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا أُقِيمَ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْأَكْثَرَ فِي الْحَجِّ مَقَامَ الْكُلِّ فِي وُقُوعِ الْأَمْنِ عَنْ الْفَوَاتِ احْتِيَاطًا بِقَوْلِهِ: مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَدْ قُلْنَا مَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَا يَفْسُدُ وَبَعْدَ الرَّمْيِ لَا يَفْسُدُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ حَلَقَ أَكْثَرَ الرَّأْسِ صَارَ مُتَحَلِّلًا فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلتَّيْسِيرِ جَرَيْنَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَأَقَمْنَا الْأَكْثَرَ مَقَامَ الْكُلِّ فِي بَابِ التَّحَلُّلِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ صِيَانَةً لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ عَنْ الْفَوَاتِ وَتَحْقِيقًا لِلْأَمْرِ يَعْنِي أَنَّ الطَّوَافَ أَحَدُ سَبَبَيْ التَّحَلُّلِ فَلَمَّا أُقِيمَ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي أَحَدِ السَّبَبَيْنِ، وَهُوَ الْحَلْقُ بِالْإِجْمَاعِ أُقِيمَ فِي السَّبَبِ الْآخَرِ، وَهُوَ الطَّوَافُ أَيْضًا كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَتَعَقَّبَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِأَنَّ إقَامَةَ الْأَكْثَرِ فِي تَمَامِ الْعِبَادَةِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ حُكْمٍ خَاصٍّ، وَهُوَ أَمْنُ الْفَسَادِ وَالْفَوَاتِ لَيْسَ غَيْرُ وَلِذَا لَمْ يَحْكُمْ بِأَنَّ تَرْكَ مَا بَقِيَ أَعْنِي الطَّوَافَ يَتِمُّ مَعَهُ الْحَجُّ، وَهُوَ مَوْرِدُ ذَلِكَ النَّصِّ فَلَا يَلْزَمُ جَوَازُ إقَامَةِ أَكْثَرِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ مَقَامَ تَمَامِ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَتَرْكِ بَاقِيهِ كَمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي نَفْسِ مَوْرِدِ النَّصِّ أَعْنِي الْحَجَّ فَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بَلْ الَّذِي نَدِينُ بِهِ أَنْ لَا يُجْزِئَ أَقَلُّ مِنْ السَّبْعَةِ، وَلَا يُجْبَرُ بَعْضُهُ بِشَيْءٍ غَيْرَ أَنَّا نَسْتَمِرُّ مَعَهُمْ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى أَصْلِهِمْ. اهـ.
وَهَذَا مِنْ أَبْحَاثِهِ الْمُخَالِفَةِ لِأَهْلِ الْمَذْهَبِ قَاطِبَةً لَكِنْ لَمْ يَجِبْ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِحَلْقِ أَكْثَرِ الرَّأْسِ فِي أَنَّهُ يُفِيدُ التَّحَلُّلَ بِالْإِجْمَاعِ فَإِقَامَتُنَا الْأَكْثَرَ فِي الطَّوَافِ لِأَجْلِ التَّحَلُّلِ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الدَّمُ بِتَرْكِ الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ نَقْصًا فِي طَوَافِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ طَافَهُ مُحْدِثًا.
وَأَشَارَ بِالتَّرْكِ إلَى أَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا لَمْ يَأْتِ بِمَا تَرَكَهُ أَمَّا إذَا أَتَمَّ الْبَاقِيَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ إنْ كَانَ الْإِتْمَامُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَمَّا بَعْدَهَا فَيَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِكُلِّ شَوْطٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ خِلَافًا لَهُمَا فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بَعَثَ شَاةً لِمَا بَقِيَ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَشَاةً أُخْرَى لِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بَعْثَ الشَّاةِ لِتَرْكِ الْأَقَلِّ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ طَافَ لِلصَّدْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا طَافَ لِلصَّدْرِ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ مَا يُكْمِلُهُ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى الْبَاقِي مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ إنْ كَانَ أَقَلَّهُ لَزِمَهُ صَدَقَةٌ، وَإِلَّا فَدَمٌ، وَلَوْ كَانَ طَافَ لِلصَّدْرِ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقَدْ تَرَكَ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ أَكْثَرَهُ كَمَّلَهُ مِنْ الصَّدْرِ، وَلَزِمَهُ دَمَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ دَمٌ لِتَأْخِيرِهِ ذَلِكَ وَدَمٌ آخَرُ لِتَرْكِ أَكْثَرِ الصَّدْرِ، وَإِنْ تَرَكَ أَقَلَّهُ لَزِمَهُ لِلتَّأْخِيرِ دَمٌ وَصَدَقَةٌ لِلْمَتْرُوكِ مِنْ الصَّدْرِ مَعَ ذَلِكَ الدَّمِ وَجُمْلَتُهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي أَنَّ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الْأَقَلِّ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ دَمًا، وَفِي تَأْخِيرِ الْأَقَلِّ صَدَقَةً، وَفِي تَرْكِ الْأَكْثَرِ مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ دَمٌ، وَفِي تَرْكِ أَقَلِّهِ صَدَقَةٌ، وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَمَبْنَى هَذَا النَّقْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ رُكْنُ عِبَادَةٍ، وَالنِّيَّةُ لَيْسَتْ شَرْطًا لِكُلِّ رُكْنٍ إلَّا مَا يَسْتَقِلُّ عِبَادَةً بِنَفْسِهِ فَشَرْطُ نِيَّةِ أَصْلِ الطَّوَافِ دُونَ التَّعْيِينِ فَلَوْ طَافَ فِي وَقْتِهِ يَنْوِي النَّذْرَ أَوْ النَّفَلَ وَقَعَ عَنْهُ كَمَا لَوْ نَوَى بِالسَّجْدَةِ مِنْ الظُّهْرِ النَّفَلَ لَغَتْ وَوَقَعَتْ عَنْ الرُّكْنِ، وَإِنَّ تَوَالِيَ الْأَشْوَاطِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ كَمَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّوَافِ لِتَجْدِيدِ وُضُوءٍ ثُمَّ رَجَعَ بَنَى.
(قَوْلُهُ: أَوْ تَرَكَ أَكْثَرَ الصَّدْرِ أَوْ طَافَهُ جُنُبًا وَصَدَقَةٌ بِتَرْكِ أَقَلِّهِ) أَيْ يَجِبُ الدَّمُ، وَلَمَّا كَانَ طَوَافُ الصَّدْرِ وَاجِبًا وَجَبَ بِتَرْكِ كُلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ دَمٌ وَبِتَرْكِ أَقَلِّهِ صَدَقَةٌ لِكُلِّ شَوْطٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ تَفْرِقَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: وَهَذَا مِنْ أَبْحَاثِهِ الْمُخَالِفَةِ لِأَهْلِ الْمَذْهَبِ) أَيْ فَلَا يُعْتَبَرُ أَصْلًا كَمَا قَالَهُ تِلْمِيذُهُ الْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ (قَوْلُهُ: ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى الْبَاقِي مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ) أَيْ الْبَاقِي عَلَيْهِ مِنْهُ، وَهُوَ قَدْرُ مَا انْتَقَلَ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ (قَوْلُهُ: وَجُمْلَتُهُ إلَخْ) أَيْ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ ثُمَّ مَا أَفَادَهُ فِي هَذَا الْحَاصِلِ مِنْ لُزُومِ الصَّدَقَةِ فِي تَأْخِيرِ الْأَقَلِّ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا مِنْ قَوْلِهِ أَمَّا بَعْدَهَا فَيَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ، وَمُخَالِفٌ لِمَا بَعْدَهُ مِنْ التَّصْرِيحِ بِلُزُومِ الدَّمِ فِي تَأْخِيرِ أَكْثَرِهِ أَوْ أَقَلِّهِ، وَفِي الْوَلْوَالِجيَّةِ لَوْ طَافَ ثَلَاثَةً لِلزِّيَارَةِ وَطَافَ طَوَافَ الصَّدْرِ أَكْمَلَ مِنْهُ الزِّيَارَةَ، وَلَزِمَهُ تَرْكُ طَوَافِ الصَّدْرِ اتِّفَاقًا وَدَمٌ لِتَأْخِيرِ الْأَشْوَاطِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ وَقْتِهِ إنْ كَانَ طَافَ لِلصَّدْرِ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْأَكْثَرَ فَصَارَ كَتَأْخِيرِ الْكُلِّ. اهـ.
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُؤَخَّرُ الْأَقَلَّ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ وَسَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا عَنْ التَّتَارْخَانِيَّة صَرِيحًا، وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ لَوْ أَخَّرَ طَوَافَ الْفَرْضِ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ أَقَلَّ طَوَافِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ دَمٌ بَلْ صَدَقَةٌ عِنْدَهُ. اهـ.
(قَوْلُهُ: وَفِي تَأْخِيرِ الْأَقَلِّ صَدَقَةٌ) زَادَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي تَرْكِ كُلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَفِي تَأْخِيرِ كُلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ دَمٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ

الصفحة 22