كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 3)

لُزُومِ الصَّدَقَةِ لِمَا أَنَّ الطَّوَافَ وَرَاءَ الْحَطِيمِ وَاجِبٌ فِي كُلِّ طَوَافٍ.

(قَوْلُهُ: أَوْ تَرَكَ السَّعْيَ أَوْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْلَ الْإِمَامِ أَوْ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِمُزْدَلِفَةَ أَوْ رَمْيِ الْجِمَارِ كُلِّهَا أَوْ رَمْيِ يَوْمٍ) أَيْ تَجِبُ شَاةٌ بِتَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا كُلَّهَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَرَادَ بِالتَّرْكِ التَّرْكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَمَّا إذَا تَرَكَ وَاجِبًا لِعُذْرٍ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَدَائِعِ فِي تَرْكِ السَّعْيِ أَنَّهُ إنْ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ دَمٌ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ تَرْكِ الْوُجُوبِ فِي هَذَا الْبَابِ أَصْلُهُ طَوَافُ الصَّدْرِ حَيْثُ سَقَطَ عَنْ الْحَائِضِ بِالْحَدِيثِ وَصَرَّحَ فِي الْهِدَايَةِ بِأَنَّ فِي تَرْكِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ بِغَيْرِ عُذْرٍ دَمًا لَا لِعُذْرٍ وَصَرَّحَ الْوَلْوَالِجِيُّ فِي فَتَاوِيهِ بِأَنَّهُ لَوْ سَعَى رَاكِبًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ دَمٌ إنْ لَمْ يُعِدْهُ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ وَاجِبٌ وَتَرْكَ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يُوجِبُ الدَّمَ، وَلَوْ أَعَادَهُ بَعْدَ مَا حَلَّ وَجَامَعَ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ فِي نَفْسِهِ إنَّمَا الشَّرْطُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَقَدْ وُجِدَ. اهـ.
وَكَذَا لَوْ أَتَى بِهِ بَعْدَ مَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، وَعَادَ إلَى مَكَّةَ لَكِنَّهُ يَعُودُ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ كَذَا ذَكَرَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ، وَقَيَّدَ بِتَرْكِهِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ أَطْعَمَ لِكُلِّ شَوْطٍ نِصْفَ صَاعٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا فَيَنْقُصُ مِنْهُ مَا شَاءَ وَتَرْكُ أَكْثَرِهِ كَتَرْكِ كُلِّهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فِي السَّعْيِ الِابْتِدَاءَ بِالصَّفَا فَلَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ لَزِمَهُ دَمٌ، وَأَرَادَ بِالْإِفَاضَةِ قَبْلَ الْإِمَامِ الدَّفْعَ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ أَوْ وَحْدَهُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ لِمَا أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوُقُوفِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبَةٌ حَتَّى لَوْ أَبْطَأَ الْإِمَامُ بِالدَّفْعِ يَجُوزُ لِلنَّاسِ الدَّفْعُ قَبْلَهُ، وَهَذَا الْوَاجِبُ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ وَقَفَ نَهَارًا أَمَّا إنْ وَقَفَ لَيْلًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ وُقُوفِهِ اُعْتُبِرَ رُكْنًا وَالْجُزْءَ الثَّانِيَ اُعْتُبِرَ وَاجِبًا كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فَإِنْ دَفَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ عَادَ إنْ عَادَ بَعْدَ الْغُرُوبِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَدَمُ السُّقُوطِ وَالصَّحِيحُ السُّقُوطُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ الْمَتْرُوكَ كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَإِنْ عَادَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ.
وَالْقَوْلُ بِالسُّقُوطِ أَظْهَرُ خُصُوصًا عَلَى التَّصْحِيحِ السَّابِقِ بَلْ أَوْلَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَآخِرَهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ فَالْوُقُوفُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ كَتَرْكِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ دَمٌ وَاحِدٌ بِتَرْكِ الْجِمَارِ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ كَمَا فِي الْحَلْقِ، وَالتَّرْكُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَهُوَ الرَّابِعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِيهَا، وَمَا دَامَتْ الْأَيَّامُ بَاقِيَةً فَالْإِعَادَةُ مُمْكِنَةٌ فَيَرْمِيهَا عَلَى التَّأْلِيفِ ثُمَّ بِتَأْخِيرِهَا يَجِبُ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلَوْ يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ تَامٌّ. قَيَّدَ بِرَمْيِ يَوْمٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ إحْدَى الْجِمَارِ الثَّلَاثِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ نُسُكٌ وَاحِدٌ فِي يَوْمٍ فَكَانَ الْمَتْرُوكُ أَقَلَّ فَيَلْزَمُهُ لِكُلِّ حَصَاةٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا فَيُنْقِصَ مَا شَاءَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ بِأَنْ يَتْرُكَ أَحَدَ عَشَرَ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ وَذَكَرَ الْإِسْبِيجَابِيُّ أَنَّهُ إنْ أَخَّرَ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ إلَى الْيَوْمِ الثَّانِي لَزِمَهُ دَمٌ، وَإِنْ أَخَّرَ رَمْيَهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ أَوْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إلَى الرَّابِعِ وَرَمْيِ الْجَمْرَتَيْنِ لَزِمَهُ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ كُلُّ الرَّمْيِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَفِي غَيْرِهِ ثُلُثُ الرَّمْيِ فَيَكُونُ مُؤَخِّرًا لِلْأَقَلِّ، وَلَوْ لَمْ يَرْمِ الْجَمْرَتَيْنِ لَزِمَهُ دَمٌ لِتَأْخِيرِ الْأَكْثَرِ وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلتَّأْخِيرِ أَصْلًا.

(قَوْلُهُ: أَوْ أَخَّرَ الْحَلْقَ أَوْ طَوَافَ الرُّكْنِ) أَيْ تَجِبُ شَاةٌ بِتَأْخِيرِ النُّسُكِ عَنْ زَمَانِهِ فَإِنَّ الْحَلْقَ وَطَوَافَ الزِّيَارَةِ مُؤَقَّتَانِ بِأَيَّامِ النَّحْرِ فَإِذَا أَخَّرَهُمَا عَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: أَمَّا إذَا تَرَكَ وَاجِبًا لِعُذْرٍ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَخْ) قَيَّدَ بِالْوَاجِبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَكَبَ مَحْذُورَ الْعُذْرِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْجَزَاءُ كَمَا فِي اللُّبَابِ وَسَيَأْتِي. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُذْرِ هُنَا مَا لَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ كَمَا حَقَّقَهُ الْمُؤَلِّفُ آخِرَ بَابِ الْإِحْصَارِ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ فِي شَرْحِ اللُّبَابِ عِنْدَ قَوْلِ اللُّبَابِ: وَلَوْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ أَيْ بِمُزْدَلِفَةَ بِإِحْصَارٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ فَقَالَ: هَذَا غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَارَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْذَارِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا مَانِعٌ مِنْ جَانِبِ الْمَخْلُوقِ فَلَا تَأْثِيرَ فِي إسْقَاطِ دَمِ الْوُجُوبِ الْإِلَهِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْبَدَائِعِ فِيمَنْ أُحْصِرَ بَعْدَ الْوُقُوفِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ثُمَّ خُلِّيَ سَبِيلُهُ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ وَدَمًا لِتَرْكِ الرَّمْيِ وَدَمًا لِتَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ أَيَّ عُذْرٍ أَعْظَمُ مِنْ الْإِحْصَارِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِحْصَارَ بِعَدُوٍّ لَا بِمَرَضٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَالْإِحْصَارُ بِعَدُوٍّ لَيْسَ بِعُذْرٍ لِسُقُوطِ الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ، وَهُوَ لَيْسَ بِعُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ أَلَا تَرَى مَا قَالُوا مِنْ أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَالطِّيبِ وَاللُّبْسِ فَإِنَّهُ لَا يَتَخَيَّرُ فِي الْجَزَاءِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالدَّمِ وَالصَّدَقَةِ بَلْ عَلَيْهِ عَيْنُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ. اهـ.
وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِمَا حَقَّقَهُ الْمُؤَلِّفُ وَغَيْرُهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْإِحْصَارِ (قَوْلُهُ: وَالْقَوْلُ بِالسُّقُوطِ أَظْهَرُ إلَخْ) قُلْتُ: وَقَدْ نَصَّ فِي الْجَوْهَرَةِ عَلَى التَّصْحِيحِ بِقَوْلِهِ فَإِنْ عَادَ قَبْلَ الْغُرُوبِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ عَلَى الصَّحِيحِ. اهـ. فَالصَّحِيحُ السُّقُوطُ بِالْعَوْدِ مُطْلَقًا أَيْ قَبْلَ

الصفحة 25