كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 3)

بِشَيْءٍ فَدَلَّهُ مُحْرِمٌ عَلَى قَوْسٍ وَنُشَّابٍ أَوْ دَفَعَ ذَلِكَ إلَيْهِ فَرَمَاهُ فَقَتَلَهُ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءٌ كَامِلٌ. اهـ.
مَعَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مُشَاهِدٌ لِلصَّيْدِ فَعُلِمَ أَنَّ الدَّلَالَةَ إذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْهَا لَا يُمْتَنَعُ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِسَبَبِ الْإِعَانَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي إعَارَةِ السِّكِّينِ أَوْ الْقَوْسِ أَوْ النُّشَّابِ هَلْ هِيَ إعَارَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْمُعِيرِ فَصَرِيحُ عِبَارَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَى صَاحِبِ السِّكِّينِ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا فَحَمَلَهُ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا إذَا كَانَ مَعَ الْقَاتِلِ سِلَاحٌ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَقْتُلُ بِهِ فَالْجَزَاءُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ بِإِعَارَتِهِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُحِيطِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي السِّيَرِ وَصَحَّحَ السَّرَخْسِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَى الْمُعِيرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ لَيْسَتْ إتْلَافًا حَقِيقَةً، وَلَا حُكْمًا بِخِلَافِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّهَا إتْلَافٌ مَعْنًى، وَالظَّاهِرُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ التَّفْصِيلِ لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ «هَلْ أَعَنْتُمْ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إعَارَةَ السِّكِّينِ إعَانَةٌ عَلَيْهِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ وَبَدَلٌ عِنْدَنَا أَمَّا كَوْنُهُ كَفَّارَةً فَلِوُجُودِ سَبَبِهَا، وَهُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ بِارْتِكَابِ مَحْظُورِ إحْرَامِهِ وَلِهَذَا قَالَ: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] ، وَأَمَّا كَوْنُهُ بَدَلًا فَلِوُجُودِ سَبَبِهِ، وَهُوَ إتْلَافُ صَيْدٍ مُتَقَوِّمٍ وَلِهَذَا اُعْتُبِرَتْ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْمَقْتُولِ وَالْجَزَاءِ وَلِهَذَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ آخِرَ الْبَابِ أَنَّهُ لَوْ اجْتَمَعَ مُحْرِمَانِ فِي قَتْلِ صَيْدٍ تَعَدَّدَ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةٌ فِي حَقِّ الْجَانِي وَجَبَ جَزَاءً عَلَى فِعْلِهِ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ جِنَايَةٌ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ الْحَلَالَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي.
ثُمَّ اعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَقْتُولِ إلَّا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّحَلُّلَ وَرَفَضَ إحْرَامَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: اصْطَادَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا كَثِيرًا عَلَى قَصْدِ الْإِحْلَالِ وَالرَّفْضِ لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ لِذَلِكَ كُلِّهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ إلَى تَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ لَا إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَتَعْجِيلُ الْإِحْلَالِ يُوجِبُ دَمًا وَاحِدًا كَمَا فِي الْمُحْصَرِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَقَدْ يُقَالُ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ لِمَا أَنَّ تَعْجِيلَ الْإِحْلَالِ فِي الْمُحْصَرِ مَشْرُوعٌ بِخِلَافِهِ هُنَا وَلِهَذَا كَانَ قَصْدُهُ بَاطِلًا، وَلَا يَرْتَفِضُ بِهِ الْإِحْرَامُ فَوُجُودُهُ، وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ.

(قَوْلُهُ: وَهُوَ قِيمَةُ الصَّيْدِ بِتَقْوِيمِ عَدْلَيْنِ فِي مَقْتَلِهِ أَوْ أَقْرَبِ مَوْضِعٍ مِنْهُ فَيَشْتَرِي بِهَا هَدْيًا وَذَبَحَهُ إنْ بَلَغَتْ هَدْيًا أَوْ طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ كَالْفِطْرَةِ أَوْ صَامَ عَنْ طَعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا) أَيْ الْجَزَاءُ مَا ذَكَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ، وَلَمْ يُقَيِّدْ بِالْعَمْدِ كَمَا فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّاسِي وَالْعَامِدِ كَإِتْلَافِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ لَيْسَ كَفَّارَةً مَحْضَةً كَمَا قَدَّمْنَا وَالتَّقْيِيدُ بِهِ، وَفِي الْآيَةِ لِأَجْلِ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِهَا لَا لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَقِّ مَنْ تَعَدَّى كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ.
وَأَشَارَ بِذِكْرِ الْقِيمَةِ فَقَطْ إلَى أَنَّهَا الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ الْمِثْلُ مَعْنًى لَا الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ بِالْكَامِلِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُمَا أَوْجَبَا النَّظِيرَ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي الشَّرْعِ فِي الْقِيَمِيَّاتِ الْمِثْلُ مَعْنًى فَإِنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ بَقَرَةً لِإِنْسَانٍ مَثَلًا لَا يَلْزَمُهُ بَقَرَةٌ مِثْلُهَا اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ مَعْنًى مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ، وَهُوَ مَجَازٌ فَلَا يُرَادُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ الْمِثْلُ صُورَةً، وَمَعْنًى لِعَدَمِ جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] أُرِيدَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQبَعْدَهَا لَيْسَ تَكْذِيبًا لَهَا فَمَا فِي الْفَتْحِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ (قَوْلُهُ: إذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْهَا إلَخْ) أَيْ لَوْ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الدَّلَالَةِ السَّابِقَةِ وَوُجِدَتْ الْإِعَانَةُ لَا يَمْتَنِعُ الْجَزَاءُ بِسَبَبِ الْإِعَانَةِ كَمَا هُنَا فَوُجُوبُ الْجَزَاءِ لِلْإِعَانَةِ لَا لِلدَّلَالَةِ وَجَعَلَ فِي النَّهْرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ مِمَّا أُلْحِقَ بِالدَّلَالَةِ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِمَا فِي الْبَحْرِ؛ لِأَنَّ تَعْلِيلَهُ فِي الْمُحِيطِ يَأْبَاهُ. اهـ.
أَقُولُ: تَفْسِيرُهُ الدَّلَالَةَ فِيمَا مَرَّ بِالْإِعَانَةِ يُغْنِي عَمَّا ذَكَرَهُ هُنَا كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ (قَوْلُهُ: فَحَمَلَهُ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ إلَخْ) قَالَ: فِي الْبَدَائِعِ وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالُوا لَوْ أَنَّ مُحْرِمًا رَأَى صَيْدًا، وَلَهُ قَوْسٌ أَوْ سِلَاحٌ يُقْتَلُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ فَدَلَّهُ مُحْرِمٌ عَلَى سِكِّينِهِ أَوْ عَلَى قَوْسِهِ فَأَخَذَ فَقَتَلَهُ بِهِ إنْ كَانَ يَجِدُ غَيْرَ مَا دَلَّهُ عَلَيْهِ مِمَّا يَقْتُلُ بِهِ لَا يَضْمَنُ الدَّالُّ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ ضَمِنَ. اهـ.
وَتَمَامُهُ فِي شَرْحِ اللُّبَابِ (قَوْلُهُ: وَقَدْ يُقَالُ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ إلَخْ) قَدَّمَ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ لُزُومِ الدَّمِ فِيمَا إذَا نَوَى بِالْجِمَاعِ الثَّانِي رَفْضَ الْحَجِّ الْفَاسِدِ أَنَّهُ اسْتَنَدَ إلَى قَصْدٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَعْجِيلُ الْإِحْلَالِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي تَأْوِيلِهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْفَتْحِ، وَقَدَّمْنَا عَنْ الْكَافِي أَنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ فِي رَفْعِ الضَّمَانِ كَالْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ قَالَ فِي الشُّرُنْبُلَالِيَّة بَعْدَ التَّعْلِيلِ السَّابِقِ، وَعَلَى هَذَا سَائِرُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ. اهـ.
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْقِيَاسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَلْ مُجَرَّدُ التَّشْبِيهِ تَأَمَّلْ. وَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ فَوُجُودُهُ، وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ مَمْنُوعٌ لِمَا عَلِمْت، وَقَدَّمْنَا عَنْ اللُّبَابِ تَعْمِيمَ الْمَسْأَلَةِ فِي سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ، وَأَنَّ نِيَّةَ الرَّفْضِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ بِهَذَا الْقَصْدِ لِجَهْلِهِ.

(قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] إلَخْ) اعْتَرَضَهُ فِي الْحَوَاشِي السَّعْدِيَّةِ بِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى إيجَابِ الضَّمَانِ بِالْمِثْلِ صُورَةً، وَمَعْنًى فِي غَصْبِ الْمِثْلِيَّاتِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ، وَعَلَى إيجَابِ الضَّمَانِ بِالْمِثْلِ مَعْنًى فِي غَصْبِ

الصفحة 31