كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 3)

أَيْ صَائِرًا هَدْيًا بِهِ وَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِوَاسِطَةِ الشِّرَاءِ بِهَا أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَوْنُ الْحَالِ مُقَدَّرَةً كَثِيرٌ، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُخَالِفِ فِيهَا يَلْزَمُ عَلَى تَقْدِيرِهِ فِي وَصْفِهَا، وَهُوَ بَالِغُ الْكَعْبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ حُكْمُهُمَا بِالْهَدْيِ مَوْصُوفًا بِبُلُوغِهِ إلَى الْكَعْبَةِ حَالَ حُكْمِهِمَا بِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ بَلْ الْمُرَادُ يَحْكُمَانِ بِهِ مِقْدَارَ بُلُوغِهِ فَلُزُومُ التَّقْدِيرِ ثَابِتٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ مَحَلُّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
ثُمَّ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا دَلَالَةَ لِلْآيَةِ عَلَى أَنَّ الِاخْتِيَارَ لِلْحَكَمَيْنِ بَلْ الظَّاهِرُ مِنْهَا أَنَّهُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ فَإِنَّ مَرْجِعَ ضَمِيرِ الْمَحْذُوفِ مِنْ الْخَبَرِ أَوْ مُتَعَلِّقَ الْمُبْتَدَأِ إلَيْهِ أَعْنِي مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَوْلِنَا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَوْ فَعَلَيْهِ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ {هَدْيًا} [المائدة: 95] إلَى أَنَّهُ لَوْ اخْتَارَ الْهَدْيَ لَا يَذْبَحُهُ إلَّا بِالْحَرَمِ لِصَرِيحِ قَوْلِهِ {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] مَعَ أَنَّ الْهَدْيَ مَا يُهْدَى مِنْ النَّعَمِ إلَى الْحَرَمِ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ لَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَثَوْبِي هَذَا هَدْيٌ أَوْ إنْ لَبِسْت مِنْ غَزْلِك فَهُوَ هَدْيٌ مَجَازٌ عَنْ الصَّدَقَةِ بِقَرِينَةِ التَّقْيِيدِ بِالثَّوْبِ وَالْغَزْلِ. وَالْكَلَامُ فِي مُطْلَقِ الْهَدْيِ فَلَوْ ذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْهَدْيِ بَلْ عَنْ الْإِطْعَامِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ فَقِيرٍ قَدْرَ قِيمَةِ نِصْفِ صَاعِ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهَا إنْ كَانَتْ قِيمَةُ اللَّحْمِ مِثْلَ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ، وَإِلَّا فَيُكْمِلُ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ إنْ بَلَغَتْ هَدْيًا إلَى أَنَّهُ إذَا، وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الْهَدْيِ يُهْدِي مَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ حَتَّى لَوْ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ إلَّا عَنَاقًا أَوْ حَمْلًا يَقُومُ بِالْإِطْعَامِ أَوْ الصَّوْمِ لَا بِالْهَدْيِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّفْكِيرُ بِالْهَدْيِ إلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ جَذَعًا عَظِيمًا مِنْ الضَّأْنِ أَوْ ثَيِّبًا مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْهَدْيِ فِي الشَّرْعِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَبْلُغُ ذَلِكَ السِّنَّ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ فِي إطْلَاقِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا مَجَازًا بِقَرِينَةِ التَّقْيِيدِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَأَفَادَ بِقَوْلِهِ ذَبَحَهُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِرَاقَةِ فَلِهَذَا لَوْ سَرَقَ بَعْدَ الذَّبْحِ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْهَدْيِ حَيًّا لَا يُجْزِئُهُ، وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِلَحْمِ الْقُرْبَانِ فَوَاجِبٌ عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَلَوْ أَتْلَفَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ ضَمِنَهُ فَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ، وَلَا يَنْعَدِمُ الْإِجْزَاءُ بِهِ، وَكَذَا لَوْ أَكَلَ بَعْضَهُ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَةَ مَا أَكَلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ اللَّحْمِ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، وَكَذَا مَا يَغْرَمُهُ مِنْ قِيمَةِ أَكْلِهِ.
وَأَطْلَقَ فِي الطَّعَامِ وَالصَّوْمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا يَجُوزُ إنْ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَمُتَفَرِّقًا وَمُتَتَابِعًا لِإِطْلَاقِ النَّصِّ فِيهِمَا، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ كَالْفِطْرَةِ إلَى أَنَّهُ يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ وَاحِدًا أَقَلَّ مِنْهُ، وَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ أَكْثَرَ تَبَرُّعًا حَتَّى لَا يَحْتَسِبَ الزِّيَادَةَ مِنْ الْقِيمَةِ كَيْ لَا يُنْتَقَصَ عَدَدُ الْمَسَاكِينِ هَكَذَا ذَكَرُوهُ هَاهُنَا، وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي بَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ نِصْفَ الصَّاعِ عَلَى مَسَاكِينَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنَّ الْقَائِلَ بِالْمَنْعِ الْكَرْخِيُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْجَزَاءِ أَوْ الْخَبَرُ أَيْ فَالْوَاجِبُ جَزَاءٌ أَوْ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ، وَمِنْ النَّعَمِ بَيَانٌ لِمَا أَوْ لِلْعَائِدِ إلَيْهَا أَيْ مَا قَتَلَهُ مِنْ النَّعَمِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَجُمْلَةُ يَحْكُمُ بِهِ صِفَةُ فَجَزَاءٌ الَّذِي هُوَ الْقِيمَةُ أَوْ صِفَةُ مِثْلُ الَّذِي هُوَ هِيَ؛ لِأَنَّ مِثْلًا لَا تَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ فَجَازَ وَصْفُهَا وَوَصْفُ مَا أُضِيفَ إلَيْهَا بِالْجُمْلَةِ وَ {هَدْيًا} [المائدة: 95] حَالٌ مُقَدَّرَةٌ مِنْ ضَمِيرِ بِهِ الرَّاجِعِ إلَى مَوْصُوفِ الْجُمْلَةِ وَ {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] صِفَةُ {هَدْيًا} [المائدة: 95] النَّكِرَةُ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لَفْظِيَّةٌ أَوْ كَفَّارَةٌ أَوْ عَدْلٌ مَعْطُوفَانِ عَلَى جَزَاءٍ وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءٌ هُوَ قِيمَةُ مَا قَتَلَهُ مِنْ النَّعَمِ الْوَحْشِيِّ يَحْكُمُ بِذَلِكَ الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ الْقِيمَةُ عَدْلَانِ حَالَ كَوْنِهِ صَائِرًا هَدْيًا بِوَاسِطَةِ الْقِيمَةِ أَوْ كَفَّارَةً إلَخْ أَيْ الْوَاجِبُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْقِيمَةِ الصَّائِرَةِ هَدْيًا، وَمِنْ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ الْمَبْنِيَّيْنِ عَلَى تَعَرُّفِ الْقِيمَةِ. اهـ. مُلَخَّصًا.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُقْتَضَى كَلَامِهِ أَخِيرًا أَنْ يَكُونَ أَوْ عَدْلُ مَعْطُوفًا عَلَى طَعَامٍ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ مِنْ كَفَّارَةٍ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ لَا عَلَى جَزَاءٍ (قَوْلُهُ: أَيْ صَائِرًا هَدْيًا بِهِ) الظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ بِهِ يَعُودُ عَلَى الْحُكْمِ الْمَفْهُومِ مِنْ يَحْكُمُ فِي الْآيَةِ، وَأَنَّ ضَمِيرَ بِهَا يَعُودُ عَلَى الْقِيمَةِ الْمُفَسَّرِ بِهَا الْجَزَاءُ أَوْ الْمِثْلُ، وَأَنَّ الْمُنَاسِبَ إسْقَاطُ الْبَاءِ الْجَارَّةِ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْفَتْحِ لِيَكُونَ عَطْفًا عَلَى الشِّرَاءِ لَا عَلَى بِوَاسِطَةٍ، وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ الشِّرَاءِ مَا يَحْصُلُ بِهِ مِلْكُ الْهَدْيِ مِنْ هِبَةٍ، وَإِرْثٍ وَنَحْوِهِمَا (قَوْلُهُ: وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ) كَأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ سَلَّمْنَا أَنَّ كَوْنَهَا مُقَدَّرَةً كَثِيرٌ لَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَكْثَرِ فَالْأَوْلَى كَوْنُهَا مُقَارِنَةً فَيَثْبُتُ أَنَّهُ يَصِيرُ هَدْيًا بِاخْتِيَارِهِمَا كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ فَأَجَابَ بِأَنَّ كَوْنَهَا مُقَدَّرَةً فِي الْآيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُمَا عَلَى مَا قَرَّرَاهُ فِيهَا لَكِنَّهُ لَازِمٌ فِي وَصْفِهَا، وَهُوَ {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] لِظُهُورِ أَنَّ بُلُوغَهُ الْكَعْبَةَ مُتَرَاخٍ عَنْ الْحُكْمِ بِكَوْنِهِ هَدْيًا (قَوْلُهُ: يُقَوَّمُ بِالْإِطْعَامِ إلَخْ) قَالَ فِي اللُّبَابِ، وَلَا يَجُوزُ الصِّغَارُ كَالْجِفْرَةِ وَالْعَنَاقِ وَالْحَمْلِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْإِطْعَامِ بِأَنْ يُعْطِيَ كُلَّ فَقِيرٍ مَا يُسَاوِي قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ (قَوْلُهُ: كَمَا قَدَّمْنَاهُ) أَيْ قَرِيبًا مِنْ مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ وَالْغَزْلِ (قَوْلُهُ: وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ، وَكَالْفِطْرَةِ إلَخْ) قَالَ فِي شَرْحِ اللُّبَابِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ عَدَدُ الْمَسَاكِينِ صُورَةً فِي الْإِطْعَامِ تَمْلِيكًا، وَإِبَاحَةً قَالَ: أَصْحَابُنَا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ دَفَعَ طَعَامَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ آصُعَ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ أَوْ غَدَّى مِسْكِينًا وَاحِدًا أَوْ عَشَّاهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا أَمَّا لَوْ دَفَعَ طَعَامَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي يَوْمٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ دَفَعَاتٍ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. اهـ

الصفحة 33