كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 3)

كَانَ مُحْرِمًا قِيمَةٌ لِمَالِكِهِ مُطْلَقًا، وَقِيمَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَا تُجَاوِزُ قِيمَةَ شَاةٍ كَمَا أَسْلَفْنَاهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْمُضْطَرِّ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ الصَّيْدِ لِلْمَخْمَصَةِ فَذَبَحَهُ، وَأَكَلَهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُقَيَّدٌ بِالْكَفَّارَةِ بِالنَّصِّ فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] الْآيَةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ، وَأَرَادَ بِالشَّاةِ هُنَا أَدْنَى مَا يُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ، وَهُوَ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ.

(قَوْلُهُ: وَلِلْمُحْرِمِ ذَبْحُ شَاةٍ وَبَقَرَةٍ وَبَعِيرٍ وَدَجَاجَةٍ وَبَطٍّ أَهْلِيٍّ) ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصُيُودٍ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَقَيَّدَ الْبَطَّ بِالْأَهْلِيِّ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَسَاكِنِ وَالْحِيَاضِ؛ لِأَنَّهُ أَلُوفٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ احْتِرَازًا عَنْ الَّذِي يَطِيرُ فَإِنَّهُ صَيْدٌ فَيَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ قَالَ الشَّارِحُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْجَوَامِيسُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فَإِنَّهُ فِي بِلَادِ السُّودَانِ وَحْشِيٌّ، وَلَا يُعْرَفُ مِنْهُ مُسْتَأْنَسٌ عِنْدَهُمْ. اهـ.
وَفِي الْمَجْمَعِ: وَلَوْ نَزَا ظَبْيٌ عَلَى شَاةٍ يُلْحَقُ وَلَدُهَا بِهَا يَعْنِي فَلَا يَجِبُ بِقَتْلِ الْوَلَدِ جَزَاءٌ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ هِيَ الْأَصْلُ.

(قَوْلُهُ: وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِذَبْحِ حَمَامٍ مُسَرْوَلٍ وَظَبْيٍ مُسْتَأْنَسٍ) لِمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلتَّوَحُّشِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَلَا عِبْرَةَ لِلْعَارِضِ وَالْحَمَامُ مُتَوَحِّشٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ مُمْتَنِعٌ بِطَيَرَانِهِ، وَإِنْ كَانَ بَطِيءَ النُّهُوضِ، وَالِاسْتِئْنَاسُ عَارِضٌ وَاشْتِرَاطُ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِلْعَجْزِ، وَقَدْ زَالَ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَفِي الْمُغْرِبِ حَمَامٌ مُسَرْوَلٌ فِي رِجْلَيْهِ رِيشٌ كَأَنَّهُ سَرَاوِيلُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْحَمَامِ مُطْلَقًا كَذَلِكَ لِمَا أَنَّ فِيهِ خِلَافَ مَالِكٍ وَلْيُفْهَمْ غَيْرُهُ بِالْأَوْلَى.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ ذَبَحَ مُحْرِمٌ صَيْدًا حَرُمَ) أَيْ فَهُوَ مَيْتَةٌ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ، وَهَذَا فِعْلٌ حَرَامٌ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً كَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ فَأَفَادَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ، وَأَشَارَ إلَى أَنَّ الْحَلَالَ لَوْ ذَبَحَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَيْتَةً أَيْضًا كَمَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَأَطْلَقَهُ فَشَمَلَ مَا إذَا كَانَ الْمُحْرِمُ الذَّابِحُ مُضْطَرًّا أَوْ لَا وَاخْتَلَفَتْ الْعِبَارَاتُ فِيمَا إذَا اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ هَلْ يَذْبَحُ الصَّيْدَ فَيَأْكُلَهُ أَوْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ فَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مِنْ الصَّيْدِ وَيُؤَدِّي الْجَزَاءَ، وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ أَغْلَظُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ تَرْتَفِعُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ أَوْ الْحَرَمِ فَهِيَ مُؤَقَّتَةٌ بِهِ بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ أَخَفَّ الْحُرْمَتَيْنِ دُونَ أَغْلَظِهِمَا، وَالصَّيْدُ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ لَكِنْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ تَرْتَفِعُ الْحَظْرَ فَيَقْتُلُهُ وَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيُؤَدِّي الْجَزَاءَ. اهـ. وَالْمُرَادُ بِالْقَتْلِ الذَّبْحُ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ الْمُحْرِمُ إذَا اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ وَصَيْدٍ فَالْمَيْتَةُ أَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ يَذْبَحُ الصَّيْدَ، وَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ مَذْبُوحًا فَالصَّيْدُ أَوْلَى عِنْدَ الْكُلِّ، وَلَوْ وُجِدَ لَحْمُ صَيْدٍ، وَلَحْمُ آدَمِيٍّ كَانَ ذَبْحُ الصَّيْدِ أَوْلَى، وَلَوْ وَجَدَ صَيْدًا أَوْ كَلْبًا فَالْكَلْبُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي الصَّيْدِ ارْتِكَابَ الْمَحْظُورَيْنِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ الصَّيْدُ أَوْلَى مِنْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ. اهـ.
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُ مَا فِي الْفَتَاوَى لِمَا أَنَّ فِي أَكْلِ الصَّيْدِ ارْتِكَابَ حُرْمَتَيْنِ الْأَكْلُ وَالْقَتْلُ، وَفِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ ارْتِكَابُ حُرْمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ الْأَكْلُ، وَكَوْنُ الْحُرْمَةِ تَرْتَفِعُ لَا يُوجِبُ التَّخْفِيفَ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمَجْمَعِ: وَالْمَيْتَةُ أَوْلَى مِنْ الصَّيْدِ لِلْمُضْطَرِّ وَيُجِيزُهُ لَهُ مُكَفِّرًا وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّ رِوَايَةَ تَقْدِيمِ الْمَيْتَةِ رِوَايَةُ الْمُنْتَقَى وَذَكَرَ الشَّارِحُ أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ صَيْدًا حَيًّا، وَمَالَ مُسْلِمٍ يَأْكُلُ الصَّيْدَ لَا مَالَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ حَرَامٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْمَالُ حَرَامٌ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَكَانَ التَّرْجِيحُ لِحَقِّ الْعَبْدِ لِافْتِقَارِهِ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ، وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا مَنْ وَجَدَ طَعَامَ الْغَيْرِ لَا يُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ، وَهَكَذَا عَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ وَبِشْرٍ أَنَّ الْغَضَبَ أَوْلَى مِنْ الْمَيْتَةِ، وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ هُوَ بِالْخِيَارِ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَغَرِمَ بِأَكْلِهِ لَا مُحْرِمٌ آخَرُ) لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ أَنَّ حُرْمَتَهُ عَلَى الذَّابِحِ مِنْ جِهَتَيْنِ كَوْنُهُ مَيْتَةً وَتَنَاوُلُهُ مَحْظُورٌ إحْرَامُهُ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ هُوَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: وَلَا يُعْرَفُ مِنْهُ مُسْتَأْنَسٌ عِنْدَهُمْ) أَيْ فَإِذَا أَحْرَمَ أَحَدُهُمْ فَمَا دَامَ فِي بِلَادِهِ فَهُوَ صَيْدٌ فِي حَقِّهِ فَإِذَا خَرَجَ إلَى بِلَادٍ يَسْتَأْنِسُ فِيهَا حَلَّ لَهُ، تَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ: أَيْ فَهُوَ مَيْتَةٌ) ذَكَرَ فِي النَّهْرِ أَنَّهُ لَيْسَ مَيْتَةً حَقِيقَةً بَلْ حُكْمًا مُسْتَدِلًّا بِمَا يَأْتِي مِنْ تَقْدِيرِ الصَّيْدِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَجَعَلَ لِذَلِكَ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ فَهُوَ مَيْتَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ (قَوْلُهُ: وَأَطْلَقَهُ فَشَمَلَ مَا إذَا كَانَ الْمُحْرِمُ الذَّابِحُ مُضْطَرًّا أَوْ لَا) ، وَكَذَا شَمَلَ مَا لَوْ كَانَ مُكْرَهًا أَوْ مُكْرَهًا قَالَ فِي اللُّبَابِ إذَا أَكْرَهَ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا عَلَى قَتْلِ صَيْدٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ كَامِلٌ، وَإِنْ أَكْرَهَ حَلَالٌ مُحْرِمًا فَالْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْحَلَالِ، وَلَوْ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ، وَإِنْ أَكْرَهَ مُحْرِمٌ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ إنْ كَانَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ فَعَلَى الْمُحْرِمُ جَزَاءٌ كَامِلٌ، وَعَلَى الْحَلَالِ نِصْفُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي صَيْدِ الْحِلِّ فَالْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَإِنْ كَانَا حَلَالَيْنِ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ إنْ تَوَعَّدَهُ بِقَتْلٍ كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى الْآمِرِ، وَإِنْ تَوَعَّدَهُ بِحَبْسٍ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَأْمُورِ الْقَاتِلِ خَاصَّةً. اهـ. وَبَيَانُهُ فِي شَرْحِهِ.
(قَوْلُهُ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُ مَا فِي الْفَتَاوَى) أَيْ تَرْجِيحُ مَا ذَكَرَهُ عَنْ الْفَتَاوَى الْخَانِيَّةِ عَلَى مَا قَدَّمَهُ عَنْ الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ الصَّيْدَ أَوْلَى مِنْ الْمَيْتَةِ (قَوْلُهُ: وَيُجِيزُهُ لَهُ مُكَفِّرًا) يَعْنِي قَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ الْمُضْطَرِّ أَنْ يَصِيدَ وَيَأْكُلَ وَيُكَفِّرَ، وَهَذَا أَهْوَنُ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجْبُرُهُ، وَلَا جَابِرَ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ كَذَا فِي شَرْحِ ابْنِ الْمَلَكِ.

الصفحة 39