كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 3)

الَّذِي أَخْرَجَ الصَّيْدَ عَنْ الْحِلِّيَّةِ وَالذَّابِحِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ فِي حَقِّ الذَّكَاةِ فَأُضِيفَتْ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ إلَى إحْرَامِهِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَهُ، وَأَمَّا الْمُحْرِمُ الْآخَرُ فَإِنَّمَا هِيَ حَرَامٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ كَوْنُهُ مَيْتَةً فَلَمْ يَتَنَاوَلْ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِأَكْلِ الْمَيْتَةِ سِوَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَبِهَذَا انْدَفَعَ قَوْلُهُمَا بِعَدَمِ الْفَرْقِ قِيَاسًا عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَطْلَقَهُ فَشَمَلَ مَا إذَا أَكَلَ مِنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ أَوْ بَعْدَهُ لَكِنْ إنْ كَانَ قَبْلَهُ دَخَلَ ضَمَانُ مَا أَكَلَ فِي ضَمَانِ الصَّيْدِ فَلَا يَجِبُ لَهُ شَيْءٌ بِانْفِرَادِهِ، وَقَيَّدَ بِأَكْلِ الْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّ الْحَلَالَ لَوْ ذَبَحَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَأَدَّى جَزَاءَهُ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ لِفَوَاتِ الْأَمْنِ الثَّابِتِ بِالْحَرَمِ لِلصَّيْدِ لَا لِلَحْمِهِ، وَقَيَّدَ بِأَكْلِهِ أَيْ أَكْلِ لَحْمِهِ؛ لِأَنَّ مَأْكُولَ الْمُحْرِمِ لَوْ كَانَ بَيْضَ صَيْدٍ بَعْدَ مَا كَسَرَهُ، وَأَدَّى جَزَاءَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْمُحِيطِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ وَبَعْدَ الْكَسْرِ انْعَدَمَ هَذَا الْمَعْنَى، وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ فَإِنْ بَاعَهُ جَازَ وَيُجْعَلُ ثَمَنُهُ فِي الْفِدَاءِ إنْ شَاءَ، وَكَذَا شَجَرُ الْحَرَمِ وَاللَّبَنِ. اهـ.
وَأَشَارَ إلَى أَنَّ مَأْكُولَهُ لَوْ كَانَ لَحْمَ جَزَاءِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَةَ مَا أَكَلَ بِالْأَوْلَى، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَأَرَادَ بِالْأَكْلِ الِانْتِفَاعَ بِلَحْمِهِ فَشَمَلَ مَا إذَا أَطْعَمَهُ لِكِلَابِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَفِي الْمُحِيطِ مُحْرِمٌ وَهَبَ لِمُحْرِمٍ صَيْدًا فَأَكَلَهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْآكِلِ ثَلَاثَةُ أَجْزِيَةٍ قِيمَةٌ لِلذَّبْحِ، وَقِيمَةٌ لِلْأَكْلِ الْمَحْظُورِ، وَقِيمَةٌ لِلْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ كَانَتْ فَاسِدَةً، وَعَلَى الْوَاهِبِ قِيمَتُهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْآكِلِ قِيمَتَانِ قِيمَةٌ لِلْوَاهِبِ، وَقِيمَةٌ لِلذَّبْحِ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَكْلِ عِنْدَهُ. اهـ.
وَهُوَ صَرِيحٌ فِي لُزُومِ قِيمَتَيْنِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلَ الْفَصْلِ.

(قَوْلُهُ: وَحَلَّ لَهُ لَحْمُ مَا صَادَهُ حَلَالٌ وَذَبَحَهُ إنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِصَيْدِهِ) لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ «حِينَ اصْطَادَ، وَهُوَ حَلَالٌ حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَأَتَى بِهِ لِمَنْ كَانَ مُحْرِمًا مِنْ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُجِبْ بِحِلِّهِ لَهُمْ حَتَّى سَأَلَهُمْ عَنْ مَوَانِعِ الْحِلِّ أَكَانَتْ مَوْجُودَةً أَمْ لَا فَقَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا قَالُوا لَا فَقَالَ: كُلُوا» إذًا فَدَلَّ عَلَى حِلِّهِ لِلْمُحْرِمِ، وَلَوْ صَادَهُ الْحَلَالُ لِأَجْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ الْمَوَانِعِ أَنْ يُصَادَ لَهُمْ لَنَظَمَهُ فِي سِلْكِ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ مِنْهَا قَيَّدَ بِعَدَمِ الدَّلَالَةِ وَالْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَدَ أَحَدَهُمَا مِنْ الْمُحْرِمِ لِلْحَلَالِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلُهُ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ تَحْرِيمَهُ، وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: لَا يَحْرُمُ وَغَلَّطَهُ الْقُدُورِيُّ وَاعْتَمَدَ رِوَايَةَ الطَّحَاوِيِّ وَظَاهِرُ مَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي حُرْمَةِ الصَّيْدِ عَلَى الْحَلَالِ بِدَلَالَةِ الْمُحْرِمِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْكُتُبِ أَنَّ الدَّلَالَةَ مِنْ الْمُحْرِمِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ لِلصَّيْدِ لَا عَلَى الصَّائِدِ الْحَلَالِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عَطْفَهُمْ الْأَمْرَ عَلَى الدَّلَالَةِ هُنَا يُفِيدُ أَنَّهُ غَيْرُهَا، وَهُوَ مُؤَيِّدٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْفَصْلِ فَرَاجِعْهُ.

(قَوْلُهُ: وَبِذَبْحِ الْحَلَالِ صَيْدَ الْحَرَمِ قِيمَةٌ يَتَصَدَّقُ بِهَا لَا صَوْمٌ) أَيْ وَتَجِبُ قِيمَةٌ بِذَبْحِ صَيْدِ الْحَرَمِ وَيَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهَا، وَلَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا فَأَفَادَ حُرْمَةَ التَّنْفِيرِ فَالْقَتْلُ أَوْلَى وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِقَتْلِهِ فَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَلَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ، وَهُوَ الصَّيْدُ فَصَارَ كَغَرَامَةِ الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ فَإِنَّ الضَّمَانَ ثَمَّةَ جَزَاءُ الْفِعْلِ لَا جَزَاءُ الْمَحَلِّ، وَالصَّوْمُ يَصْلُحُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: فَأَدَّى جَزَاءَهُ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهُ) التَّقْيِيدُ بِأَدَاءِ الْجَزَاءِ كَمَا وَقَعَ فِي الْفَتْحِ اتِّفَاقِيٌّ نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي النَّهْرِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَيْتَةٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا مَرَّ عَنْ غَايَةِ الْبَيَانِ، وَفِي شَرْحِ اللُّبَابِ اعْلَمْ أَنَّهُ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ كَصَاحِبِ الْإِيضَاحِ وَالْبَحْرِ الزَّاخِرِ وَالْبَدَائِعِ وَغَيْرِهِمْ بِأَنَّ ذَبْحَ الْحَلَالِ صَيْدَ الْحَرَمِ يَجْعَلُهُ مَيْتَةً لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَإِنْ أَدَّى جَزَاءَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِخِلَافٍ وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُهُ تَنْزِيهًا، وَفِي اخْتِلَافِ الْمَسَائِلِ اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا ذَبَحَ الْحَلَالُ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَقَالَ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: الْكَرْخِيُّ هُوَ مَيْتَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ مُبَاحٌ. اهـ.
وَعِبَارَةُ مَتْنِ اللُّبَابِ إذَا ذَبَحَ مُحْرِمٌ أَوْ حَلَالٌ فِي الْحَرَمِ صَيْدًا فَذَبِيحَتُهُ مَيْتَةٌ عِنْدَنَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا لَهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ مُحْرِمٍ أَوْ حَلَالٍ سَوَاءٌ اصْطَادَهُ هُوَ أَيْ ذَابِحُهُ أَوْ غَيْرُهُ مُحْرِمٌ أَوْ حَلَالٌ، وَلَوْ فِي الْحِلِّ فَلَوْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ الذَّابِحُ مِنْهُ شَيْئًا قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ أَوْ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْهُ غَيْرُ الذَّابِحِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَكَلَ الْحَلَالُ مِمَّا ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ بَعْدَ الضَّمَانِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْأَكْلِ، وَلَوْ اصْطَادَ حَلَالٌ فَذَبَحَ لَهُ مُحْرِمٌ أَوْ اصْطَادَ مُحْرِمٌ فَذَبَحَ لَهُ حَلَالٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ. اهـ.
(قَوْلُهُ: وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ) أَيْ تَحْتَ قَوْلِ الْمَتْنِ، وَهُوَ قِيمَةُ الصَّيْدِ فِي مَقْتَلِهِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْهِبَةَ كَانَتْ فَاسِدَةً) رَأَيْت بِخَطِّ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ الْفَاسِدَةَ لَا تُفِيدُ الْمِلْكَ، وَأَمَّا عَلَى مُقَابِلِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا نَقَلَهُ الْعَلَائِيُّ فَرَاجِعْهُ. اهـ.
قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّ الْهِبَةَ هُنَا بَاطِلَةٌ لَا يَمْلِكُهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ خَرَجَتْ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ لِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ كَمَا يَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ وَبَطَلَ بَيْعُ الْمُحْرِمِ صَيْدًا أَوْ شِرَاؤُهُ تَأَمَّلْ.

الصفحة 40