كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 3)

كَفَّارَةٌ لَهُ وَلِصَرِيحِ النَّصِّ {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى نَفْيِ الصَّوْمِ لِيُفِيدَ أَنَّ الْهَدْيَ جَائِزٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مِثْلَ مَا جَنَى؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ كَانَتْ بِالْإِرَاقَةِ، وَقَدْ أَتَى بِمِثْلِ مَا فَعَلَ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَا تُجْزِئُهُ الْإِرَاقَةُ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْمَذْبُوحِ قَبْلَ الذَّبْحِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الصَّيْدِ فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَكْفِيهِ الْإِرَاقَةُ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَتَصَدَّقُ بِتَمَامِ الْقِيمَةِ، وَفِيمَا إذَا سُرِقَ الْمَذْبُوحُ فَعَلَى الظَّاهِرِ لَا يَجِبُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ تَجِبُ الْإِقَامَةُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْحَلَالِ لِيُفِيدَ أَنَّ حُكْمَ الْمُحْرِمِ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ كَحُكْمِ الْحَلَالِ بِالْأَوْلَى وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ جَزَاءَانِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ فِي الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى لِتَحْرِيمِهِ الْقَتْلَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ فَاعْتُبِرَ الْأَقْوَى وَأُضِيفَتْ الْحُرْمَةُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَلِهَذَا وَجَبَ الْجَزَاءُ بِهِ لَا لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا شَجَرُ الْحَرَمِ وَحَشِيشُهُ فَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَيْدٌ احْتِرَازِيٌّ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ تَلْزَمُهُ قِيمَةٌ يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ وَالصَّوْمِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ فِي صَيْدِ الْمُحْرِمِ فِي الْحَرَمِ، وَقَيَّدَ بِذَبْحِ الْحَلَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَلَّ إنْسَانًا عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ الْمَدْلُولُ مُحْرِمًا وَالْفَرْقُ بَيْنَ دَلَالَةِ الْمُحْرِمِ وَدَلَالَةِ الْحَلَالِ أَنَّ الْمُحْرِمَ الْتَزَمَ تَرْكَ التَّعَرُّضِ بِالْإِحْرَامِ فَلَمَّا دَلَّ تَرَكَ مَا الْتَزَمَهُ فَضَمِنَ كَالْمُودِعِ إذَا دَلَّ السَّارِقَ عَلَى الْوَدِيعَةِ، وَلَا الْتِزَامَ مِنْ الْحَلَالِ فَلَا ضَمَانَ بِهَا كَالْأَجْنَبِيِّ إذَا دَلَّ السَّارِقَ عَلَى مَالِ إنْسَانٍ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءُ الْفِعْلِ وَالدَّلَالَةُ فِعْلٌ، وَعَلَى الْحَلَالِ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ جَزَاءُ الْمَحَلِّ، وَفِي الدَّلَالَةِ لَمْ يَتَّصِلْ بِالْمَحَلِّ شَيْءٌ، وَلَيْسَ مَقْصُودُهُ تَقْيِيدَ الضَّمَانِ بِالذَّبْحِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ سَيُصَرِّحُ آخِرَ الْفَصْلِ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ ظَبْيَةَ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا.
وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَمَنْ أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ يَرُدُّهُ إلَى مَأْمَنِهِ فَإِنْ أَرْسَلَهُ فِي الْحِلِّ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ أَمْنَهُ بِالْإِخْرَاجِ فَمَا لَمْ يُعِدْهُ إلَى مَأْمَنِهِ بِإِرْسَالِهِ فِي الْحَرَمِ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ. اهـ.
فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذَّبْحِ إتْلَافُهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَلَا فَرْقَ فِي الْإِتْلَافِ بَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ التَّسَبُّبُ عُدْوَانًا كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي صَيْدِ الْمُحْرِمِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمُحِيطِ هُنَا: وَلَوْ أَدْخَلَ الْمُحْرِمُ بَازِيًا فَأَرْسَلَهُ فَقَتَلَ حَمَامَ الْحَرَمِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ وَاجِبًا، وَمَا قَصَدَ الِاصْطِيَادَ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي السَّبَبِ بَلْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فَلَا يَضْمَنُ. انْتَهَى. فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ يُضْمَنُ بِالْمُبَاشَرَةِ وَبِالتَّسَبُّبِ وَوَضْعِ الْيَدِ حَتَّى لَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ فَتَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا كَمَا سَيَأْتِي صَرِيحًا فِي الْكِتَابِ وَالصَّيْدُ يُضْمَنُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَيْضًا وَيُزَادُ عَلَيْهَا رَابِعٌ، وَهُوَ الْإِعَانَةُ عَلَى قَتْلِهِ حَتَّى لَوْ أَحْرَمَ، وَفِي يَدِهِ حَقِيقَةً صَيْدٌ فَلَمْ يُرْسِلْهُ حَتَّى هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَزِمَهُ جَزَاؤُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِحُكْمِ جُزْءِ صَيْدِ الْحَرَمِ كَبَيْضِهِ وَلَبَنِهِ، وَلَعَلَّهُ لِفَهْمِهِ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْجُزْءَ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ فَإِذَا كَسَرَ بَيْضَ صَيْدِ الْحَرَمِ أَوْ جَرَحَهُ ضَمِنَ ثُمَّ رَأَيْت التَّصْرِيحَ فِي الْمُحِيطِ بِأَنَّ جِرَاحَتَهُ مَضْمُونَةٌ فَقَالَ: حَلَالٌ جَرَحَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَزَادَتْ قِيمَتُهُ مِنْ شَعْرٍ أَوْ بَدَنٍ ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْجِرَاحَةِ فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَتْهُ الْجِرَاحَةُ، وَقِيمَتُهُ يَوْمَ مَاتَ وَتَمَامُ تَفَارِيعِهِ فِيهِ، وَأَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ فَشَمَلَ مَا إذَا كَانَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ وَالصَّائِدُ فِي الْحِلِّ أَوْ عَكْسِهِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ.
قَالَ فِي الْمُحِيطِ: ثُمَّ الصَّيْدُ إنَّمَا يَصِيرُ آمِنًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بِإِحْرَامِ الصَّائِدِ وَبِدُخُولِ الصَّيْدِ الْحَرَمَ وَبِدُخُولِ الصَّائِدِ فِي الْحَرَمِ، وَفِي الْأَخِيرِ خِلَافُ زُفَرَ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الدَّاخِلَ لِلْحَرَمِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِاصْطِيَادُ مُطْلَقًا كَمَا يَحْرُمُ بِالْإِحْرَامِ وَالْعِبْرَةُ لِقَوَائِمِ الصَّيْدِ لَا لِرَأْسِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ وَرَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: كَحُكْمِ الْحَلَالِ) أَيْ فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُحْرِمَ يَجُوزُ لَهُ الصَّوْمُ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ قَرِيبًا (قَوْلُهُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَيْدٌ احْتِرَازِيٌّ) أَيْ التَّقْيِيدُ بِالْحَلَالِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُحْرِمِ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ مُخَيَّرٌ كَمَا مَرَّ مَتْنًا فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ بِخِلَافِ الْحَلَالِ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ كَمَا عَلِمْت، وَفِي عَزْوِهِ الْمَسْأَلَةَ إلَى الْهِدَايَةِ إيهَامٌ أَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ هُنَا، وَفِي اللُّبَابِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ فَلَا يَجُوزُ لِلْحَلَالِ وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ. اهـ.
نَعَمْ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ أَوَّلَ الْفَصْلِ مُطْلَقَةٌ يُمْكِنُ تَقْيِيدُهَا بِصَيْدِ الْمُحْرِمِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَلِذَا لَمْ يَعْزُ إلَيْهَا، وَفِي شَرْحِ اللُّبَابِ قَالَ فِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ: إنَّ الْإِطْعَامَ يُجْزِئُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ، وَلَا يَجُوزُ الصَّوْمُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُجْزِئُ، وَفِي الْمُخْتَلِفِ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ بِالْإِجْمَاعِ قَالَ صَاحِبُ الْمَجْمَعِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّوْمِ عَنْ زُفَرَ رِوَايَتَانِ فَنَقَلَ كُلُّ وَاحِدٍ رِوَايَةً ثُمَّ هَذَا فِي الْحَلَالِ أَمَّا الْمُحْرِمُ فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الصَّوْمُ وَالْهَدْيُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَجَبَ اعْتِبَارُ أَقْوَاهُمَا، وَهُوَ الْإِحْرَامُ فَأُضِيفَ إلَيْهِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامَهُ ضَرُورَةً وَبِهِ صَرَّحَ فِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ فَقَالَ: أَمَّا الْمُحْرِمُ إذَا قَتَلَ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّهُ تَتَأَدَّى كَفَّارَتُهُ بِالصَّوْمِ. اهـ وَتَمَامُهُ فِيهِ. (قَوْلُهُ: وَلَيْسَ مَقْصُودُهُ تَقْيِيدَ الضَّمَانِ بِالذَّبْحِ إلَخْ) نَظَرَ فِيهِ فِي النَّهْرِ بِأَنَّ بِتَقْدِيرِهِ يُسْتَغْنَى عَمَّا سَيَذْكُرُهُ بَعْدُ. اهـ.
أَيْ فَالْمُرَادُ التَّقْيِيدُ بِقَرِينَةِ مَا يُصَرِّحُ بِهِ بَعْدُ، وَإِلَّا تَكَرَّرَ

الصفحة 41