كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 3)

وَمِنْهَا إذَا حَفَرَ بِئْرًا فَهَلَكَ فِيهَا صَيْدُ الْحَرَمِ وَيَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ أَوْ مَوَاتٍ لَا ضَمَانَ، وَإِلَّا ضَمِنَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّسَبُّبَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدِّي لِلْمَاءِ لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ لِلِاصْطِيَادِ يَضْمَنُ.
وَمِنْهَا لَوْ جَرَحَ الْحَلَالُ صَيْدًا فِي الْحِلِّ ثُمَّ دَخَلَ الصَّيْدُ الْحَرَمَ فَجَرَحَهُ فَمَاتَ مِنْهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ قِيمَتُهُ مَجْرُوحًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ، وَمِنْهَا لَوْ أَمْسَكَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، وَلَهُ فَرْخٌ فِي الْحَرَمِ فَمَاتَ الْفَرْخُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِلْفَرْخِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ، وَقَدْ تَسَبَّبَ فِي مَوْتِهِ إنْ قُلْنَا إنَّ إمْسَاكَهُ. عَنْ فَرْخِهِ مَعْصِيَةٌ وَمِنْهَا لَوْ وَقَفَ عَلَى غُصْنٍ فِي الْحِلِّ، وَأَصْلُ الشَّجَرَةِ فِي الْحَرَمِ وَرَمَى إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ أَوْ كَانَ الْغُصْنُ فِي الْحَرَمِ وَالشَّجَرَةُ وَالصَّيْدُ فِي الْحِلِّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ عَلَى الْغُصْنِ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الطَّائِرِ إذَا كَانَ عَلَى الْغُصْنِ فَلَا ضَمَانَ فِي الْأُولَى وَضَمِنَ فِي الثَّانِيَةِ.
وَمِنْهَا إذَا أَدْخَلَ شَيْئًا مِنْ الْجَوَارِحِ فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا لَا بِصُنْعِهِ وَيَنْبَغِي أَنَّهُ إنْ لَمْ يُرْسِلْهُ فَأَتْلَفَ ضَمِنَ، وَأَمَّا إذَا أَرْسَلَهُ فَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ الْمُحِيطِ عَدَمَ الضَّمَانِ، وَمِنْهَا لَوْ رَأَى حَلَالٌ جَالِسٌ فِي الْحَرَمِ صَيْدًا فِي الْحِلِّ هَلْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَعْدُوَ إلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ فِي الْحِلِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّيْدَ يَصِيرُ آمِنًا بِوَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَقَدْ يُقَالُ لَمَّا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ لَمْ يَبْقَ وَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَحَلَّ لَهُ وَيُجَابُ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حِلِّ سَعْيِهِ فِي الْحَرَمِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسَّعْيِ أَمْنٌ، وَفِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَمِقْدَارُ الْحَرَمِ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ، وَمِنْ الْجَانِبِ الثَّانِي اثْنَا عَشَرَ مِيلًا، وَمِنْ الْجَانِبِ الثَّالِثِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا، وَمِنْ الْجَانِبِ الرَّابِعِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِيلًا هَكَذَا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَهَذَا شَيْءٌ لَا يُعْرَفُ قِيَاسًا، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ نَقْلًا. قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: فِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ فَإِنَّ مِنْ الْجَانِبِ الثَّانِي مِيقَاتَ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ التَّنْعِيمُ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ. اهـ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ حَدَّهُ مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ دُونَ التَّنْعِيمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، وَمِنْ طَرِيقِ الْيَمَنِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، وَمِنْ طَرِيقِ الطَّائِفِ عَلَى عَرَفَاتٍ مِنْ بَطْنِ نَمِرَةَ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ عَلَى ثَنِيَّةِ جَبَلٍ بِالْمَقْطَعِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الْجِعْرَانَةِ فِي شُعَبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ جُدَّةَ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، وَإِنَّ عَلَيْهِ عَلَامَاتٍ مَنْصُوبَةً فِي جَمِيعِ جَوَانِبِهِ نَصَبَهَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَانَ جِبْرِيلُ يُرِيهِ مَوَاضِعَهَا ثُمَّ أُمِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَجْدِيدِهَا ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهِيَ إلَى الْآنَ بَيِّنَةٌ، وَقَدْ جَمَعَهَا الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ النَّوْبَرِيُّ فَقَالَ:
وَلِلْحَرَمِ التَّحْدِيدُ مِنْ أَرْضِ طِيبَةَ ... ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ إذَا رُمْت إتْقَانَهُ
وَسَبْعَةُ أَمْيَالٍ عِرَاقٍ وَطَائِفٍ ... وَجُدَّةَ عَشْرٌ ثُمَّ تِسْعٌ جِعْرَانَةٌ
وَمِنْ يَمَنٍ سَبْعٌ بِتَقْدِيمِ سِينِهَا ... وَقَدْ كَمَّلْت فَاشْكُرْ لِرَبِّك إحْسَانَهُ
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ مَكَّةَ مَعَ حَرَمِهَا هَلْ صَارَتْ حَرَمًا آمِنًا بِسُؤَالِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمْ كَانَتْ قَبْلَهُ كَذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَا زَالَتْ مُحَرَّمَةً مِنْ حِينِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. اهـ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَدِينَةِ حَرَمٌ عِنْدَنَا فَيَجُوزُ الِاصْطِيَادُ فِيهَا، وَقَطْعُ أَشْجَارِهَا، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهَا صَرِيحَةٌ فِي تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ كَمَكَّةَ، وَأَوَّلُهَا أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحْرِيمِ التَّعْظِيمُ وَيَرُدُّهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إنِّي حَرَّمْت الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا لَا تُقْطَعُ أَغْصَانُهَا، وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا» فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ لَهَا حَرَمًا كَمَكَّةَ فَلَا يَجُوزُ قَطْعُ شَجَرِهَا، وَلَا الِاصْطِيَادُ فِيهَا وَالْأَحْسَنُ الِاسْتِدْلَال بِحَدِيثِ أَنَسٍ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَخٌ صَغِيرٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، وَكَانَ لَهُ نُغَيْرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَمَاتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا إذَا حَفَرَ بِئْرًا فَهَلَكَ فِيهَا صَيْدُ الْحَرَمِ) كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ، وَهِيَ وَيَنْبَغِي أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ أَوْ مَوَاتٍ لَا ضَمَانَ، وَإِلَّا ضَمِنَ (قَوْلُهُ: ثُمَّ دَخَلَ الصَّيْدُ الْحَرَمَ فَجَرَحَهُ فَمَاتَ مِنْهَا) كَذَا فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ مُوَافِقًا لِمَا فِي النَّهْرِ، وَفِي عِدَّةِ نُسَخٍ غَيْرِهَا بِدُونِ فَجَرَحَهُ وَالظَّاهِرُ مَا هُنَا تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا لَوْ أَمْسَكَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ مِمَّا مَرَّ فِيمَا لَوْ غَلَقَا الْبَابَ عَلَى صَيْدٍ فَمَاتَ عَطَشًا. اهـ.
قُلْتُ: وَكَذَا مِنْ مَسْأَلَةِ مَا لَوْ نَفَّرَ صَيْدًا عَنْ بَيْضِهِ ثُمَّ رَأَيْت الْمَسْأَلَةَ مُصَرَّحًا بِهَا فِي مَتْنِ اللُّبَابِ فَقَالَ: لَوْ مَاتَا ضَمِنَ الْفَرْخَ لَا الْأُمَّ (قَوْلُهُ: إنْ قُلْنَا إنَّ إمْسَاكَهُ عَنْ فَرْخِهِ مَعْصِيَةٌ) فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ الْحِلِّ بَدَلُ قَوْلِهِ عَنْ فَرْخِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِذَلِكَ لِمَا قَدَّمَهُ أَنَّ السَّبَبَ كَالْمُبَاشَرَةِ بِشَرْطِ كَوْنِهِ عُدْوَانًا (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا لَوْ وَقَفَ عَلَى غُصْنٍ فِي الْحِلِّ إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ فِي السِّرَاجِ لَوْ كَانَ الرَّامِي فِي الْحَرَمِ وَالصَّيْدُ فِي الْحِلِّ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ فَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ، وَلَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَنَفَّرَ فَأَصَابَهُ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَلَوْ أَصَابَهُ فِي الْحِلِّ، وَمَاتَ فِي الْحَرَمِ يَحِلُّ أَكْلُهُ قِيَاسًا وَيُكْرَهُ اسْتِحْسَانًا. اهـ.
(قَوْلُهُ: وَمِنْهَا لَوْ رَأَى حَلَالٌ جَالِسٌ فِي الْحَرَمِ إلَخْ) قَالَ: فِي النَّهْرِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي الْجَوَازِ إذْ لَا مَنْعَ ثَمَّةَ. (قَوْلُهُ: وَمَنْ يَمَنٍ سَبْعٌ إلَى آخِرِ الْبَيْتِ) قَالَ فِي الشُّرُنْبُلَالِيَّة وَلَوْ قِيلَ، وَمِنْ يَمَنٍ سَبْعُ عِرَاقٍ وَطَائِفٍ وَجُدَّةَ عَشْرٌ ثُمَّ تِسْعٌ جِعْرَانَةُ لَاسْتَغْنَى عَنْ الْبَيْتِ الثَّالِثِ.

الصفحة 43